"الخروجُ البريطاني" في عالمٍ مُنفتِحٍ مُنغلِق!

مقالات رأي و تحليلات الأحد ٢٦/يونيو/٢٠١٦ ٠٨:٠٤ ص
"الخروجُ البريطاني" في عالمٍ مُنفتِحٍ مُنغلِق!

لا تبدو نتائج الاستفتاء البريطاني التي جاءت لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي أنها تعني بريطانيا وحدها ولا حتى أوروبا وحدها، ليس فقط لأهمية بريطانيا السياسية والاقتصادية، أو لأن العالم متداخل مترابط، بل أيضاً لأنها تأتي في سياق يشهد فيه العالم الذي يبدو منفتِحاً افتراضياً، صعوداً متنامياً للتيارات اليمينية وعودة للمشاعر القومية التي كانت قد شهدت في العقود الأخيرة نوعاً من الكُمون لمصلحة تيارات قارِّية وكونية. فالتواصل الآخذ في الاتساع بين أهلِ معمورة متعددة الأعراق والثقافات، تواصلٌ ذو حدَّين، ليس بالضرورة أن يكونا متناقضين، بل لعلهما متلازمان متوازيان. من جهةٍ يتعارف الناس ويتعرَّفون على بعضهم بعضاً، بما يُضمره التعارف من فضول ورغبة باكتشاف الآخر ولو «افتراضيا» عبر الصور والكلمات. هنا لم يعد الآخر مجهولاً أو مجرداً، صار معلوماً ومعروفاً، ولئن كان الإنسان عدو ما يجهل، فإن النتيجة «المنطقية» لِـ»واقعٍ افتراضيٍّ» مستجدٍ جَعَلَ المجهولَ معلوماً هي أن يصبح العالم أقل عداوة وحروباً ونزاعات، وهذا ما لم يحدث حتى الآن.

من جهة ثانية، يمثِّلُ هذا الانفتاح الهائل «خطراً» على الهويات القومية والثقافات المحلية ما يدفع كثيرين للانكماش والانغلاق (...) برهانُ هذا «الخطر» تنامي التيارات اليمينية المتطرفة والأصوليات الدينية والعرقية في أنحاء العالم كله، ومشاعر النقمة والغضب حيال المهاجرين واللاجئين. هل أنكى من أن يكون مثل دونالد ترامب بخطابه المقيت رئيساً محتملاً للدولة الأقوى؟ ما يعزّز الاتجاه الثاني من معادلةٍ حائرةٍ بين انفتاحٍ وانغلاق، هو عدم التوازن بين عالمين، واحد متقدِّم منتِج لأدوات العصر (لا نقول إنه خال كلياً من الأزمات)، وآخر رازح تحت وطأة الحروب والفقر والأمية والبطالة، مستهلِك لِكلِّ ما ينتجه العالم الأول. عالمٌ مهيمِنٌ مسيطِرٌ، وعالمٌ مهيمَنٌ ومسيطَرٌ عليه. المفارقة أن الأول يبدو أيضاً خائفاً وهلِعاً، لم تعد الحروب بعيدة أو «نظيفة» كما كانت تبدو، أو كما كان يُراد لها أن تبدو. الإرهاب المعولَم بات قادراً على الضرب أنَّى ومتى يشاء، موجات الهجرة عبر بحارٍ تحوَّلت «مقابر مائية»، صارت فزاعة تخيفُ المتمسكين بـ «صفاء» مجتمعاتهم وأعراقهم، التنقل بين البلدان غدا محكوماً بهواجس الأمن ومستلزماته، الحدود الجغرافية التي خلخلتها «العولمة الافتراضية» يسعى حرَّاسها جاهدين لإعادتها إلى سيرتها وصورتها الأولين.

صحيح، لم يعد للحدود الجغرافية الأهمية والجدوى التي كانت عليهما، لكن على الرغم من تشكِّل ما يُشبه كوكباً افتراضياً في استطاعة «مواطنيه» التواصل فيما بينهم بلا حدود ولا رقابة، فإن حدوداً أخرى أكثر رسوخاً لا تزال تفصل بين أهل المعمورة الواحدة، حدود تترسَّخ وتتعمق وتعلو أسلاكها الشائكة...»
ما بين مزدوجين مقتطفات من مقالة سابقة لي نُشِرَت في صحيفة «الحياة» اللندنية قبل شهرين، أستعدتُ بعض ما جاء فيها تزامناً مع نتائج الاستفتاء البريطاني التي جاءت صادمةً للبعض من صّناع القرار في كثير من دول العالم، مخلّفةً آثاراً (ستبرز أكثر في قابل الأيام) على كثير من المجتمعات الأوروبية بما فيها بريطانيا نفسها فضلاً عن الآثار الاقتصادية وتجلياتها الأولية في الأسواق والبورصات. تباعاً سوف نكتشف مدى تأثير الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي على بريطانيا نفسها أولاً وعلى أوروبا ثانياً ثم على العالم الذي يحلو للبعض القول إنه بات «قرية واحدة»، لكن المشكلة أن سكان هذه القرية لا ينتمون إلى العالم ذاته ولا إلى ثقافة جامعة أو نمط عيش متناغم ومتجانس، وبمقدار ما يمكن أن يكون هذا الاختلاف نعمة من نِعْم التنوع، فإنه أيضاً قادر على أن يكون نقمة ووبالاً، خصوصاً على الفئات المستضعَفة ضمن تلك «القرية الواحدة»، لا لأن التنوع يفرض ذلك، بل لأن إدارة العالم لا تزال محكومة بذهنية السيد والعبد، أو المسيطِر والمسيطَر عليه، والأهم المنتِج والمستهلِك.
صحيح أن الفئات العمرية الأصغر سناً من البريطانيين صوتت لصالح البقاء داخل الاتحاد الأوروبي ما يعكس نظرة شبابية مختلفة أكثر انفتاحاً ورحابة، وأن مَن قالوا نعم للخروج مرجِّحين كفة نتائج الاستفتاء هم الأكبر سناً ممن يُضمرون.
اعتقاداً بعظمة بريطانيا وتفوقها ويعتقدون أنها لا تزال تلك الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، لكنهم سوف يكتشفون مع الوقت أنهم واهمون. قلنا صحيح إن خارطة الاستفتاء كانت على النحو المشار إليه متوزعة بين شباب وشِيَّاب وكذلك بين إنجلترا وأسكتلندا حيث غالبية مواطني الأخيرة مؤيدة للبقاء ضمن الاتحاد الأوروبي، لكن النتيجة في نهاية المطاف جاءت لصالح الخروج من الاتحاد، ولعله في العمق خروجاً من أوروبا نفسها بالمعنى السياسي والثقافي بعيد المدى، خصوصاً متى قابلته (وستقابله) نزعات انفصالية مماثلة في بلدان أخرى.
عودٌ على بدء، لعل نتيجة الاستفتاء البريطاني ما كانت لتكون على هذا النحو لولا صعود التيارات اليمينية في أنحاء العالم كله، وتصاعد المشاعر القومية الملامِسة لحدود الشوفينية والتطرف. المفارقة أن كل هذا يحدث في ظل الانفتاح الهائل في وسائل التواصل التي كشفت الجميع على الجميع، وَعِوَض أن تجعل الآخر قريباً ومقبولاً جعلته أكثر بعداً ومرفوضاً نتيجة الخوف منه والخشية على الهوية والخصوصية. فكثير من المراقبين كتب أن النتيجة ما كانت لِتكون كما جاءت لولا موجات الهجرة واللجوء من الشرق البائس نحو الجنة الأوروبية المتوَهمة، ولولا التحرش الجنسي الجماعي الذي ارتكبه لاجئون ليلة رأس السنة في ألمانيا، مُضافةً الى الأسباب الأصلية السياسية والاقتصادية التي لا يمكن فصلها عن قضايا اللاجئين والحدود المفتوحة وحق العمل وحرية التنقّل ومساعدة دول الاتحاد الأقل دخلاً حيث الخلاف جذري بين بريطانيا ودول أوروبية أخرى على رأسها ألمانيا.تتقدَّم التكنولوجيا وتتطور ويتعمَّق حضور الذكاء الصناعي في حياتنا اليومية ويغدو العالم متصلاً متواصلاً على نحو غير مسبوق، لكن في الوقت نفسه، وكما بدأنا أعلاه، تزداد الهوة اتساعاً وتباعداً بين «عالمين» ضمن العالم الواحد. الطامة الكبرى أنهما «عالمان» متوازيان لا يلتقيان لقاء الآخر بآخره، بل يتصادمان ويتصارعان حتى تكاد تصح مقولة صموئيل هنغتنتون بشأن «صراع الحضارات»، لكن صِحتها كارثية خصوصاً متى آمَنَ بها وتصرّف وفقاً لقواعدها وغاياتها الطرف المنتِج والمسيطِر.
أين العرب من كل ذلك؟ لنا عودة.