مصير الاتحاد الأوروبي ودرس في الاقتصاد والسياسة

مقالات رأي و تحليلات الأربعاء ٢٧/يوليو/٢٠١٦ ١٦:٢٩ م
مصير الاتحاد الأوروبي ودرس في الاقتصاد والسياسة

محمد محفوظ العارضي

مرةً أخرى يَثبت ومن خلال التجربة أن العلاقات الاقتصادية هي التي تحدد العلاقات السياسية تحالفاً كانت أم صراعاً، حباً أو جفاءً. ومهما برزت مصالح الدول في بناء تحالفات وكيانات اتحادية، إلا أن هذه المصالح لا حياة لها إلا إذا عبّرت عن ذاتها بإنجازات اقتصادية ملموسة. العلاقات بين الدول تشبه إلى حد كبير العلاقات بين الأفراد وخاصةً العلاقات العاطفية، فماذا سيكون مصير العاطفة بين إثنين يرغبان بالحياة المشتركة إذا كانت كافة الظروف المحيطة بهذه العلاقة مجافية؟

مظاهر الجفاء الأول بين دول الاتحاد الأوروبي ظهرت بعد الأزمة المالية العالمية التي انفجرت في العام 2008. وازداد هذا الجفاء بالتمظهر بعد أن توضحت نتائج الأزمة وخاصة تركيز الثروة الذي خلق بالنتيجة أوروبا غنية وأوروبا فقيرة، أقلية غنية في أوروبا القديمة وأغلبية فقيرة لا تشعر بالأمان ولا تضمن مستقبلها. وإذا كان خيار بريطانيا الذي عبرت عنه أصوات المستفتين هو القفز من سفينة تغرق تدريجياً، فما هو خيار الباقين الذين لا يملكون طوق نجاة ولا زروق هروب سريع؟ الإجابة على هذا السؤال تشير إلى أن أزمة الاتحاد الأوروبي دخلت مرحلة متقدمة ولكنها لا زالت بعيدة عن النهايات السعيدة.

الدرس الاقتصادي والسياسي الأول الذي يجب أن نقرأه نحن كعرب نصبو للوحدة والتكامل الاقتصادي، ونسعى لقيام سوق عربية مشتركة، ونحلم بعملة موحدة، هو أنه من المغامرة غير المحسوبة إنشاء اتحاد على نفس الظروف المأزومة التي دفعتنا لإيجاد هذا الاتحاد كحل جذري للأزمات المتأصلة. بمعنى أن تأسيس الاتحاد الأوروبي لم يغيّر في شكل الاقتصادات الوطنية لكل بلد من بلدانه، ولم يؤثر في تركيبة الاقتصاد العالمي المأزوم، بل ساهم في تعميق الأزمة الأوروبية والأزمة العالمية بالنتيجة.
لقد شكلت أزمة نهاية الستينات محطة انتقال إلى شكل الاقتصاد العالمي المالي الجديد، الذي تعمّق وتحوّل إلى نظام رأسمالي مضارب. ومع هذا الانتقال «من النظام الرأسمالي المنتج إلى النظام الرأسمالي المضارب» تعرّض هذا النظام لانهيارات متتالية: انهيار الأسواق الآسيوية منتصف التسعينات، ثم انهيار أسهم تكنولوجيا المعلومات بداية الألفية الثالثة، وصولاً إلى ما سمي بالانهيار المالي الكبير منتصف العام 2008، حيث ارتفعت الأسعار بشكل جنوني، وعمّت البطالة، واتسع نطاق الجوع الذي ما تزال آثاره وتداعياته قائمة.
حتى مطلع السبعينات كانت القطاعات الإنتاجية هي التي تهيمن على الاقتصاد العالمي، أما المصارف فكان دورها ذا طبيعة خدمية، بحيث تزوّد القطاع الإنتاجي بالنقد الذي تحصل عليه من المدخرين. وكانت الدولة، حتى ذلك الحين، هي التي تحدد لأسواق المال ما يجوز لها فعله وما لا يجوز، وكانت هي أيضاً التي تحدد أسعار الفائدة. من هنا يمكن التأكيد على حقيقة أن تداعيات الأزمة المالية العالمية لا تزال مستمرة بشكلها السياسي الذي عبّر عن ذاته بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، حتى بعد أن خبا من الإعلام وهج تداعياتها الاقتصادية التي جعلت من أوروبا قارة تحت الدين، بل جعلت العالم كله تحت طائلة الديون.
الدرس الثاني لنا كعرب، يتعلق بالتنمية وشموليتها وأدواتها واتجاهاتها، وكيف يمكن تحقيقها وسط محيط عالمي مأزوم مالياً وانتاجياً.
إن التفاوت بين دول أوروبا والذي تعمّق بعد الأزمة المالية العالمية، دليل على أن الازدهار الذي شهدته السوق الأوروبية في السنوات السابقة كان ازدهاراً هشاً، يحمل في طياته أسباب انتكاسته. لقد تفككت البنية الاجتماعية بعد الأزمة نتيجة الانزياح الهائل للثروة من يد الدولة والمجتمع إلى الشركات متعددة الجنسيات، الأمر الذي أدى إلى اضمحلال الطبقة الوسطى، وتراجع نسبتها في المجتمع، خلال سبع سنوات أكثر من عشرة بالمائة. وجزء ضئيل من هؤلاء استطاع أن يرتقي إلى مرتبة أعلى، والجزء الأعظم منهم انحدر إلى مصاف الثلث الأخير من السلم الاجتماعي.
أما الدرس الثالث فهو درس في العدالة التاريخية، «فالوحدة الأوروبية الاقتصادية» بدأت بشكل غير عادل باستحواذ القوي على الضعيف من الشركات، نتج عن ذلك استحواذ شركات أوروبا الغربية على مصانع ومزارع أوروبا الشرقية، وانتقال عدد كبير من مزارعي وعمال رومانيا وبولندا وسلوفاكيا وبلغاريا وغيرهم من الأوروبيين الشرقيين إلى أوروبا الغربية، لتعويض هجرة
مواطني المُسْتَعْمَرات الفرنسية والبريطانية القديمة، والتي أغلقت أوروبا في وجهها أبوابها، ما أثار موجات عنصرية واسعة تجاه المهاجرين الأوروبيين الجدد، مع تحميلهم مسؤولية الأزمات الاقتصادية. وهذا ما يفسر الالتباس الذي ساد التصويت على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وكأنها تصويت ضد ظاهرة الهجرة الداخلية.
الدرس الأخير لنا كعرب هو أن الوحدة لم تصبح خياراً مستحيلاً بعد فشل وحدة الاتحاد الأوروبي، فبنيتنا الاجتماعية مختلفة والقواسم بيننا أكثر من القواسم بين شعوب أوروبا التي لا تتحدث حتى لغةً واحدة. كما أن اقتصاداتنا الناشئة لا زالت في طور ما قبل العولمة المالية، تميل للاندماج العادل أكثر من ميلها للاستحواذ بعضها على بعض، فنظمنا الاقتصادية ليست ليبرالية بالمطلق لأن للدولة دوراً حاسماً ورئيسياً في تحديد مسارات التنمية وأدواتها وخططها العامة التي تجند كافة القطاعات في سبيل تحقيقها، وصلاحيات الشركات الضخمة تنتهي عند حدود المصلحة الوطنية العامة. والأكثر من ذلك فإن الوحدة الاقتصادية ضرورة موضوعية ملّحة، تفرضها حقيقة أن معظم أسواقنا هي أسواق استهلاكية لمنتجات تأتي من خارج حدودنا القومية، وليس لدينا تنافس على الإنتاج بقدر ما لدينا رغبة في تحفيز هذا الإنتاج وسد حاجة أسواقنا.

رئيس مجلس إدارة البنك الوطتي العماني