الإسكندرية.. مدينة لا تنام

مزاج الأربعاء ٢٤/أغسطس/٢٠١٦ ٢١:٠٩ م
الإسكندرية.. مدينة لا تنام

القاهرة- خالد البحيري

2400عام هو العمر الحقيقي لمدينة الإسكندرية – العاصمة الثانية لمصر- فقد خطها الإسكندر الأكبر المقدوني على ساحل البحر الأبيض المتوسط لتكون عاصمة له ولمن جاء من بعده، واستمرت كذلك قرابة الألف عام، حتى فتح عمر بن العاص مصر، ونقل العاصمة إلى مدينة الفسطاط على ضفاف النيل.
هذه المدينة العريقة المُغرقة في القِدم بمبانيها التي تشبه الطراز الإغريقي، لا تزال شابّة، فهي كما يسميها عُشّاقها "عروس البحر الأبيض المتوسط"، ولا يزال بريقها يجتذب ملايين المصريين في فصل الصيف، من الهاربين من حرارة القاهرة والصعيد، ومحافظات الدلتا، إلى حيث الطقس المعتدل، والشواطئ التي تشبه حبات اللؤلؤ والفيروز.
"الشبيبة" كانت هناك، ورصدت تدفق المصطافين على هذه المدينة صباح كل جمعة، ما بين مقيم لمدة أسبوع كامل، أو ليوم واحد يعود بعدها إلى العاصمة في نهاية اليوم، وسجلت نبض هذه المدينة التي لا تنام منذ أعياد الربيع نهاية شهر أبريل، وحتى النصف الثاني من شهر أكتوبر.
ما إن يأذن الله بميلاد فجر جديد وتتسلل أشعة الشمس الذهبية إلى الشواطئ التي تمتد لنحو 70 كيلو مترا، حتى تنشق الشوارع عن آلاف الأسر المتجهة إلى المياه الدافئة طمعا في جو صاف خال من التلوث، ومياه تشبه في زرقتها صفحات السماء التي تسر الناظرين.
الجميع يحمل أغراضه، ومستلزمات الجلوس على الشاطئ الذي لا يكلف الفرد سوى 15 جنيها (نحو دولارين) يحصل مقابلهما على كرسي بينما تحصل الأسرة على "شمسية" تقيها حرارة الشمس حينما تتوسط كبد السماء.
ويظل التدفق البشري حتى قرابة غروب الشمس فالبعض هناك يفضل النزول آخر النهار، وإن كانت الغالبية العظمى تقضي اليوم كاملا، ما بين السباحة، والطعام والشراب، وحتى غفوة القيلولة، في مواجهة البحر الذي جاءوا من أجله.
وما إن ينسدل الستار عن النهار ويجر الليل سواده ويخيم على الشاطئ حتى يتحول إلى أماكن مفتوحة لقضاء سهرة على مقربة من البحر، ولا يخلو الأمر من عشاق السباحة ليلا، خاصة من بعض الأسر التي لا ترغب في أن تنزل نساؤها المياه في زحمة النهار.
وما بين الشاطئ ورماله، والمحلات التجارية التي تقع على الجهة المقابلة يمتد شارع "الكورنيش" الذي يصعب المشي فوق أرصفته على الأرجل بسبب الزحام الشديد، والباعة الذين يقدمون بضائعهم للزائرين بأسعار زهيدة، سواء كانت مأكولات خفيفة من تلك التي يعشقها المصريون مثل "الأيس كريم" أو "الذرة المشوي" أو "البطاطا المشوي"، أو حتى ملابس الصيف التي تستخدم عادة في السباحة أو التنزه.

انتعاش اقتصادي
المدينة التي تغطيها "نوات البحر" في فصل الشتاء وتغزوها السماء بماء منهمر لعدة أيام متواصلة، تتنفس الرواج الاقتصادي، خلال خمسة أشهر في الصيف، فالمصطافون غالبا ما ينعمون بالسباحة والجلوس على الشاطئ نهارا، ويمارسون متعتهم في التبضع والتسوق ليلا، خاصة من تلك المحلات التي تبيع بأسعار تناسب الطبقة المتوسطة والفقيرة، ويظل شارع خالد بن الوليد بمنطقة "سيدي بشر" صاحب الحظ الوافر في عدد المتسوقين والمحلات التي تقدم الملابس بأنواعها، والفواكه، والأسماك، والحلويات الشرقية، ولعب الأطفال، بأسعار تتراوح ما بين 10 جنيهات وحتى 100 جنيه.
الجديد هذا الصيف أن الاستثمارات السورية في الإسكندرية بدأت تأخذ طريقها للعلن مثلما فعلت بالقاهرة قبل نحو عامين أو ثلاث، وانتشرت المحلات التي تقدم الحلويات السورية الفاخرة، وكذلك المطاعم التي تلبي طلبات عشاق الوجبات الشامية.

نقابات وعمال
على شاطئ ميامي التقينا محمد عبد السلام الذي قال: أعمل مهندسا بإحدى الشركات الحكومية، وتنتظر أسرتي الصيف لكي تأتي إلى هنا، فدرجة الحرارة في القاهرة مرتفعة جدا، صحيح أن اقامتنا هنا أسبوع واحد، لكنه مفيد لنا جميعا.. فهنا نلتقي ونجلس لساعات مع أولادنا، نتناقش ونقترب أكثر بعد شهور طويلة من المذاكرة والعمل والانشغال عن بعضنا البعض.
وأضاف: تلعب النقابات والاتحادات والجمعيات المهنية والنقابية والعمالية دورا في توفير المصايف لأعضائها بأسعار مناسبة، وتوفر لهم ضمن الاشتراك وسيلة مواصلات (أتوبيس مكيف) لـ 5 أفراد للأسرة الواحدة، وبعض الجهات تدفع من صناديق خاصة يشترك فيها الموظفون ثم يتم خصمها من الراتب على دفعات، وبالتالي تكون غير مكلفة.
وأوضح أن إيجار الشقة التي تكفي أسرة مكونة من 5 أشخاص لا يتجاوز 300 جنيه في اليوم (33 دولار تقريبا)، والطعام والشراب متاح بنفس أسعار القاهرة تقريبا، والبعض يحمل معه طعامه وشرابه من هناك من باب التوفير، لكن لا يخلو الأمر من "عزومة" على الغداء أو العشاء في أحد المحلات المشهورة، قد تتكلف للأسرة الواحد نحو 600 جنيه، لكن ذلك يكون لمرة واحدة فقط خاصة الأسر الفقيرة.
وتابع: لا يمكن للأسرة التي جاءت للمصيف أن تعود دون جلب بعض الحلويات وخاصة "الهريسة" التي تشتهر بها محافظة الإسكندرية وخاصة هريسة أحمد حسنين، التي تتوزع فروع محلاته في كل شارع حيوي تقريبا بالإسكندرية، فضلا عن فروعها بالقاهرة.
وعلى مقربة منه كانت تجلس امرأة خمسينية ويظهر على لهجتها أنها من محافظات الصعيد، حيث قالت لنا: ظروفنا لا تسمح باستئجار شقة هنا ولذلك قرر أبنائي واصدقاؤهم أن يأتوا ليوم واحد، واتفقوا مع سيارة "ميكروباص" لنقلهم من حي إمبابة بالجيزة والعودة بهم آخر اليوم مقابل 70 جنيها للفرد، وقد جئت معهم خوفا عليهم من البحر، وكما ترى أجلس هنا على الشاطئ أجهز لهم ولزملائهم "سندوتشات" يتناولونها كلما خرجوا من البحر، وأحرس لهم ملابسهم والحقائب التي معهم.
وتابعت: "الجو حلو لكن ما باليد حيلة.. كان نفسي أقضي هنا كام يوم لكن ولادي صنايعية ورزقهم يوم بيوم، ويكاد يكفي احتياجاتنا بالكاد من مأكل وملبس وأدوية".

الرزق على الله
بصوته الجهوري لفت انتباهنا، فقد كان يحمل عدد من الألعاب البلاستيكية التي تستخدم في السباحة لمن لا يجيدونها، أو لعب الأطفال الذين يفضلون الرسم على الرمال ونقل المياه إلى الشاطئ عبر أناء بلاستيكي صغير في رحلة لا تنتهي، فلا مياه البحر تجف، ولا الرمال تشبع منها.. استوقفناه وسألناه عن قدرته على اقناع الزبائن وهم في هذه الحالة، ما بين سابح في المياه أو جالس على الرمال، فقال: "الرزق على الله".. قبل أن يبدأ الموسم نتفق مع الجهة المستأجرة للشاطئ للسماح لنا بالبيع هنا، وذلك مقابل مبلغ مالي قد يصل إلى 20 ألف جنيه (أكثر من ألفين دولار).
ونعمل منذ الخامسة فجرا وحتى العاشرة مساء لكي نعوض هذا المبلغ ونوفر لأنفسنا ربحا، ونبيع هنا ما يلزم للبحر مثل "العوامة" التي تستخدمها البنات في السباحة حتى لا تغرق، ويتراوح سعرها ما بين 35- 50 جنيها، ونعرف كيف نبيعها لهن، خاصة إذا كانت مخطوبة أو مع صديق لها، كما نبيع "بطة" وهي لعبة على شكل بطة مصنوعة من البلاستك يجلس فيها الطفل ويستطيع العوم بصحبة والده أو والدته دون أن يغرق، وأيضا نبيعها بسعر من 30-45 جنيها حسب الزبون، وما إن يرانا الطفل حتى يظل يبكي حتى يشترى له والده ما أراد.
واختتم بالقول: مهنة مرهقة أن تبيع لأناس تراهم يستمتعون وأنت تقف على قدميك تحت حر الشمس ورطوبة البحر، لكنه السعي على لقمة العيش وقد تعودنا على ذلك، وتدر علينا هذه المهنة تقريبا للشخص الواحد 100 جنيه في اليوم، وهو مبلغ جيد والحمد لله.
غادرنا الإسكندرية، لكن السحر والألق الأسطوري لا يزال يسكن تفاصيلها، حواريها وأزقتها، وهي تستقبل كل صباح راغبي المتعة والاستجمام وأحيانا الاستمتاع بذلك الصخب اللذيذ.