«سيناريو» ما بعد نقل السفارة للقدس

مقالات رأي و تحليلات الثلاثاء ٠٣/يناير/٢٠١٧ ٠٥:٢٣ ص
«سيناريو» ما بعد نقل السفارة للقدس

فهمي هويدي

من مفارقات الأقدار وسخرياتها أن الرئيس الأمريكي الجديد إذا تراجع عن تعهده بنقل سفارة بلاده إلى القدس فسيكون ذلك راجعا لأسباب عدة، ليس بينها قلقه من الصدى المتوقع في العالم العربي.
(1)
ألقيت السؤال على أكثر من خبير ودبلوماسي في أربعة أقطار عربية، ولم أفاجأ بالإجابة قدر مفاجأتي بالإجماع عليها. كان السؤال كالتالي: ما الذي يمكن أن يحدث في العالم العربي إذا ما أقدم الرئيس الجديد على تنفيذ وعده؟ نبهت إلى أن وعود الحملة الانتخابية ليست كلها قرارات ما بعد استلام السلطة. وإن مسألة نقل السفارة إلى القدس عادة ما تتردد في انتخابات الرئاسة الأمريكية لضمان أصوات اليهود، ولكن أحدا من الرؤساء الذين تم انتخابهم لم يستطع الإقدام على تقلك الخطوة لسببين رئيسيين، أولهما أن ثمة قرارا لمجلس الأمن صدر في العام 1980 اعتبر أن نقل السفارة إلى القدس بمثابة خرق للقانون الدولي، كما اعتبر «قانون القدس» الذي أصدره الكنيسيت باطلا ويتعين إلغاؤه. ودعا المجلس 13 دولة (أغلبها من دول أمريكا اللاتينية) كانت قد أقامت سفاراتها في المدينة المقدسة إلى إخراجها منها، وحين نجح اللوبي اليهودي بالولايات المتحدة في استصدار قانون من الكونجرس عام 1995 نص على الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ودعا الرئيس الأمريكي إلى نقل السفارة إليها، فإن صيغة القرار تضمنت ثغرة سمحت للرئيس بتأجيل تطبيقه كل ستة أشهر، وقد استمر ذلك التأجيل طوال العشرين سنة التالية، حيث لجأ إليه كل رئيس تم انتخابه لكي يتحلل مما وعد به. السبب الثاني لعدم نقل السفارة طوال تلك الفترة راجع إلى أن العالم العربي كان له وزن مختلف، كما أن العداء العربي لإسرائيل كان متماسكا إلى حد ما، رغم توقيع الرئيس السادات لاتفاقية «السلام» في العام 1979 (الأردن وقع اتفاقية وادي عربة في العام 1994).
الشاهد أن الرؤساء الأمريكيين الذين ساندوا إسرائيل طول الوقت، حرصوا على ألا تكون واشنطن نموذجا للإطاحة بقرارات مجلس الأمن، ثم إنهم وضعوا في الاعتبار حماية مصالحهم في العالم العربي والإسلامي.
(2)
الأمر اختلف هذه المرة أمريكيا وعربيا، الأمر الذي لا يستبعد معه أن يصدر الرئيس الأمريكي قراره الصادم لنا. تؤيد ذلك الشواهد التالية:
- إن الرجل قادم من خارج السياسة، وليس معنيا كثيرا بمختلف الحسابات والاعتبارات والسياسة التي أثرت على مواقف الرؤساء السابقين، ومن ثم فهو على استعداد للإطاحة بتلك الاعتبارات، خصوصا أنه ليكودي الهوى، بمعنى أنه منحاز إلى القوى الأكثر تطرفا في إسرائيل، وكان ذلك أوضح ما يكون في اختياره لسفير بلاده لدى الدولة العبرية. وفي حملته على مجلس الأمن بعد إصداره قرار إدانة المستوطنات، وفي دعوته إلى حجب إسهام واشنطن في ميزانية الأمم المتحدة. وقد تحدثت وسائل الإعلام عن أن الرجل ماض في الوفاء بما وعد به، وأن واشنطن استقبلت فريقا إسرائيليا قدم لترتيب الأمر مع نظرائهم الأمريكيين، وأشارت إلى أن مقر القنصلية الأمريكية في القدس سيكون مقرا للسفارة بشكل مؤقت إلى حين تهيئة المكان لكي يكون لائقا «للمقام».
- حفاوة أغلب الأنظمة العربية بالرئيس الجديد وحرصها على استرضائه. وتراجع أهمية القضية الفلسطينية ضمن أولويات أغلب الأنظمة العربية التي أصبحت غارقة في مشكلاتها الداخلية، إلى جانب انشغال بعضها بالمعركة ضد الإرهاب، وتركيز البعض الآخر بمواجهة إيران وما تمثله من أخطار تهددها.
- اتساع نطاق الاختراق الإسرائيلي للدول العربية، بصورة علنية أو غير علنية إلى الحد الذي دفع إسرائيل إلى الادعاء بأنها صارت جزءا مما سمي معسكر الاعتدال العربي السُّني في مواجهة العدو الإيراني والخطر الشيعي.
(3)
ينبغي أن نعترف بأن العالم العربي الذي هو قلب العالم الإسلامي تراجع وزنه كثيرا في المعادلة الدولية، سواء بسبب غياب قيادته وانفراط عقده وخرائطه فضلا عن تعدد محاوره وتباين سياساته، إذ استهلكت طاقته إما في الحروب الأهلية الداخلية التي تجري في إطار القطر الواحد، وإما في الحروب الإقليمية داخل المحاور المختلفة.
للأسف فإن الوهن والضعف الحاصلين في الجانب العربي يقابلان بعجرفة واستكبار من جانب الإسرائيليين الذين تحدوا الجميع فأقروا تقنين المستوطنات المقامة فوق الأراضي المحتلة في يوم صدور قرار إدانة الاستيطان، وقرر رئيس وزرائهم «توبيخ» الدول التي أيدت قرار مجلس الأمن، ومعاقبة الدول الأربع التي تمسكت بمناقشة القرار بعد قيام المندوب المصري بسحبه.
يزداد الموقف تعقيدا إذا ما تصورنا تداعيات الموقف الأمريكي الذي وعد الرئيس الجديد بأنه سيكون «علامة فارقة» في تاريخ المنطقة، وأيا كان قدر المبالغة في تصريحه، فإننا لا نستطيع أن نهون من شأن سياساته إذا مضى في نقل السفارة، ذلك أن هذا الموقف ربما أصبح بمثابة مقدمة تشجع دولا أخرى على أن تحذو حذو الإدارة الأمريكية. وهو ما لاحظنا مقدماته في انتقاد رئيسة الوزراء البريطانية لخطاب وزير الخارجية الأمريكي بخصوص المستوطنات، التي كانت بريطانيا قد أيدت قرار إدانتها في مجلس الأمن. وفي ظل الود الذي يلوح في الأفق بين الرئيس الأمريكي الجديد والرئيس الروسي فليس مستبعدا أن يتوافق الطرفان على تصفية القضية بمختلف عناوينها، خصوصا أن اللاعبين الدوليين باتوا يتصرفون وحدهم في مصائر المنطقة مستثمرين حالة الفراغ فيها، يشهد بذلك الاتفاق الأخير بين روسيا وتركيا وإيران بخصوص وقف القتال في سوريا.

(4)
لأول وهلة تبدو الصورة كئيبة ومحبطة خصوصا أن أغلب الأنظمة العربية لن تلجأ إلى أي إجراء حقيقي إذا ما تم نقل السفارة الأمريكية (دعك من بيانات الشجب والتنديد) لسبب جوهري هو أن تلك الدول باتت حريصة على استرضاء الرئيس الجديد وعدم إغضاب إسرائيل المنتفخة والمتعجرفة.
ومما له دلالته في هذا الصدد أن الذين تمسكوا بمناقشة قرار إدانة المستوطنات كانوا يمثلون أربع دول غير عربية في حين أن قرار سحبه كان عربيا. ومن المفارقات أيضا أنه في حين تراجعت أولوية القضية الفلسطينية في المحيط العربي الرسمي، أضع خطا تحت قيمة رد الفعل، لأننا شبعنا شجبا وتنديدا. صحيح أن الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبوالغيط اعتبر أن نقل السفارة الأمريكية إلى القدس بمثابة «انتكاسة كبيرة». كما أن أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير صائب عريقات قال إنه من شأن تلك الخطوة أن تدمر عملية السلام، ودعا عمرو موسى الأمين العام الأسبق للجامعة العربية إلى ضرورة الاستعداد للتعامل مع القرار الأمريكي المنتظر، محذرا مما هو أسوأ، حيث لم يستبعد أن يتجه الرئيس الأمريكي الجديد للاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل. لكن ذلك كله يظل ضمن الضجيج الذي لا طحن له والنفخ في «القربة» العربية المقطوعة. وليس ذلك رأيي الشخصي فقط، ولكنه جماع رأي الذين سألتهم من الخبراء والدبلوماسيين في الدول العربية الأربع.
إن المشكلة ليست فقط في تبجح الآخرين واستخفافهم بالعالم العربي، لكنها تكمن أولا في الوهن والاستخذاء اللذين يفضحان الحقيقة في العالم العربي، الأمر الذي يقدم دليلا جديدا على أن تحرير فلسطين لن يتحقق إلا إذا تم تحرير العالم العربي أولا. وإذا بدا ذلك أمرا عصيا في الوقت الراهن، فإننا إذا لم نملكه فلا أقل من أن نفهمه على وجهه الصحيح.

كاتب مصري