أحلام من ثورتين

مقالات رأي و تحليلات الأحد ٠٨/يناير/٢٠١٧ ٠٤:١٠ ص
أحلام من ثورتين

إيريك برجلوف

تُلقي الهجمة الإرهابية الأخيرة التي ضربت إحدى أسواق الكريسماس (عيد الميلاد) في برلين ــ والتي أسفرت عن مقتل 12 شخصاً، وإصابة أكثر من خمسين آخرين ــ بظلال كئيبة على احتفالات الأعياد هذا العام في مختلف أنحاء أوروبا. وبالنظر إلى هذا الحدث من تونس، حيث تصادف وجودي خلال التداعيات التي ترتبت عليه، أستطيع أن أجزم بأن هذا الهجوم خَلَّف أيضا تأثيراً كبيراً آخر، وإن كان مختلفاً. فتونس على أية حال هي موطن أنيس العمري، الجاني المزعوم.

مثلهم كمثل الأوروبيين، يخشى التونسيون الإرهاب. ولكنهم لا يخشون وقوع هجمات إرهابية فردية فحسب، كتلك التي استهدفت متحف باردو في تونس والشاطئ في مدينة سوسة العام 2015، أو حتى الاغتيالات السياسية العديدة التي تعرضت لها تونس منذ بدأ تغيير النظام في العام 2011. بل يساور التونسيين القلق الشديد من اضطرابات اجتماعية محتملة تدمر ديمقراطيتهم الشابة الرائعة، والتي لا تزال هشة رغم ذلك. وتقدم لهم ليبيا المجاورة مثالاً توضيحيا صارخا للكيفية التي قد تبدو عليها مثل هذه الاضطرابات.

الواقع أن مشهد الحكومة التونسية وهي تحاول إدارة الموقف وحدها ليس بالمشهد الجذاب. إذ يعلم التونسيون أن دولتهم ضعيفة وغير قادرة على حمايتهم حقا. وقد تنتهي بهم الحال إلى ما انتهت إليه في مِصر، أو ربما تتحرك بلدهم في الاتجاه الذي سلكته الجزائر، حيث أفسحت فترة وجيزة من مغازلة الإسلام السياسي قبل 25 عاماً المجال لسنوات من الصراع العنيف.
وما يزيد الأمور سوءا المخاوف بشأن الإرهاب والتي قتلت صناعة السياحة الكبيرة في تونس، الأمر الذي أدى إلى إضعاف الاقتصاد بشدة.
ونتيجة لهذا، تحاول الدولة التي تتلقى الدعم من صندوق النقد الدولي بالفعل شراء الاستقرار الاجتماعي من خلال زيادة التوظيف في الدولة. ولاحتواء عجز الموازنة المتزايد الضخامة، اختارت تونس زيادة الضرائب، وهو ما من شأنه أن يزيد من تراجع النمو.
وقد اكتسب هذا التدهور طابعاً مؤسسياً، مع رفض النقابات الرئيسية لأي تسوية وإصابة المجتمع المدني بخيبة الأمل. وبشكل خاص، يفتقر الشباب إلى الثقة في المؤسسات ــ وهي مشكلة بالغة الخطورة في بلد حيث تقل أعمار 38% من السكان عن 25 عاماً.
يأتي الشباب الذين التقيت بهم في تونس، والذين جمعت بينهم المنظمة غير الحكومية البريطانية «الفِكر التقدمي» والتي تروج للتفاهم بين وجهات النظر العلمانية والدينية للعالَم، من مختلف ألون الطيف السياسي. ولكن يجمع بينهم قاسم مشترك واحد: فهم يعتبرون أنفسهم من ضحايا العولمة. ومن منظورهم، يتآمر المجتمع الدولي عليهم فيقوض فرصهم في العثور على فرصة عمل وتكوين أسرة. وقد أوجد هذا التصور أرضا خصبة لتجنيد الإرهابيين؛ فقد سافر من تونس عدد من «المجاهدين» أكبر من أي دولة أخرى للقتال في سوريا والعراق.
كان تهديد الإرهاب العابر للحدود سبباً في اجتذاب اهتمام المجتمع الدولي إلى تونس. ولكن هذا ليس السبب الوحيد الذي يحتم علينا الاهتمام بمصير البلاد. إذ أن تونس تبقى منارة الأمل للديمقراطية والحرية السياسية في المنطقة.
قمت بزيارة إلى تونس بصحبة مسؤول اسبق من أوكرانيا، البلد الذي تجمع بينه وتونس قواسم مشتركة عديدة على الرغم من اختلاف التاريخ والثقافة بين البلدين. فقد شهدت أوكرانيا أيضا ثورة دَفَعَت بزعيمها الأسبق إلى المنفى، غير أن الإصلاحات هناك كانت متعثرة.
وقد واجــه كــل من البلدين ارتباكات وعراقيل خطيرة من جراء الحرب (في ليبيا المجاورة في حالة تونس)، بما في ذلك تدفق النازحين (كل من البلدين يؤوي نحو مليوني لاجئ).
يتعيّن على المجتمع الدولي أن يساعد في ضمان تمكين كل من تونس وأوكرانيا من تحقيق كامل إمكانات ثورتهما. ولا بد أن يتضمن هذا المساعدة في التعامل مع اللاجئين، فضلا عن دعم الإصلاحات العريضة الداعمة لقوة الدولة، وهو الأمر الأكثر أهمية.
الواقع أن الحوار السياسي، الذي انطلق في تونس بفضل حركة النهضة والأحزاب غير الدينية في البرلمان، أنقذ البلاد من الهاوية السياسية على الرغم من كل العيوب التي تشوبه. ولكن ما لم تتمكن الحكومة من تنفيذ الإصلاحات، فسوف ينهار الحوار ــ وتنهار معه آفاق الشباب في تونس.
تحمل أوكرانيا درساً مهماً هنا أيضا. فقد ترسخت عملية الإصلاح هناك جزئياً بفضل دعم خارجي كبير. ولكن أصحاب المصالح الراسخة لا زالوا يقاومون التقدم.
وفي حين ينبغي للإصلاحات أن تكون ملكاً خالصاً لأهل البلاد، فمن الممكن أن تساعد قوى خارجية ــ وخاصة الاتحاد الأوروبي ــ في تعزيز الرؤية المحلية من خلال توفير مسار قابل للاستمرار نحو التغيير المؤسسي.
يصب مد يد العون لمثل هذه البلدان في مصلحة الاتحاد الأوروبي الذاتية. فهو أيضا يواجه أزمة اللاجئين، التي لن يتمكن من التصدي لها من دون شراكات فعّالة. على سبيل المثال، نجحت المؤسسات الأوروبية والحكومة الأسبانية في احتواء تدفق المهاجرين عبر مضيق جبل طارق.
ويتطلب استيعاب أزمة الهجرة الأوسع، وفي الوقت نفسه جعل الهجرة أقل خطورة للمهاجرين أنفسهم، عقد المزيد من الصفقات مع شركاء جديرين بالثقة. وهنا تشكل تونس مرشحاً جيداً. وقد تمكنت أوروبا بالفعل من التفاوض على ترتيبات مع تونس لتقييد تدفقات المهاجرين وإعادة أولئك الذين رُفِضوا كلاجئين.
بيد أن هجوم برلين يسلط الضوء على حدود القدرة المؤسسية التي قد تتمتع بها أي دولة. ويبدو أن طرد أمير من ألمانيا تأخر بسبب تباطؤ البيروقراطية التونسية في تأكيد جنسيته.
لهذا السبب، يتعين على المجتمع الدولي أيضا أن يقدم لتونس الموارد اللازمة لتعزيز أجهزة الدولة ومنظمات المجتمع المدني على حد سواء. هذا فضلا عن رؤية لتكامل أوثق مع الاتحاد الأوروبي للمساعدة في توجيه العملية السياسية، كما حدث في أوكرانيا. ولا يرتبط الأمر بعضوية الاتحاد الأوروبي، بل يتعلق بفتح الأسواق وتخفيف القيود المفروضة على تأشيرات الدخول (وهو ما ينبغي لنا أن نعترف بصعوبته بعد مذبحة برلين).
تخشى كل من تونس وأوكرانيا أن تزيد أوروبا من إحكام غلق أبوابها. وقد رأيت الضيق والهم في أعين الإصلاحيين الأوكرانيين بعد تصويت المملكة المتحدة لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي، واستشعرت استجابة مماثلة في تونس عندما ظهرت هوية الشخص الذين نفذ هجوم برلين. ولن تُفضي محاولات أوروبا لعزل نفسها عن العالَم إلا إلى حرمان مواطني هذه الدول من أي أمل في حياة أفضل في أوطانهم.

أستاذ ومدير معهد الشؤون العالمية
في كلية لندن الاقتصاد والعلوم السياسية.