مصر من «الضيعة» إلى الشخصنة

مقالات رأي و تحليلات الثلاثاء ١٠/يناير/٢٠١٧ ٠٤:١٥ ص
مصر من «الضيعة» إلى الشخصنة

فهمي هويدي

(1)
حين قال رئيس لجنة القوى العاملة بالبرلمان إن الرئيس عبدالفتاح السيسي يعمل وحده وإننا ينبغي أن ندعو الله لأن يعينه، فإن كلامه لم يكن تعبيرا عن رأي خاص به، وإنما كان ترديدا لمقولة شائعة تبثها وسائل الإعلام بصياغات مختلفة. فتلك هي الرسالة التي توجهها وسائل الإعلام في مواجهة كل أزمة تتعلق بقصور أداء السلطة. وأحيانا يعبر عن الموقف ذاته بالإشارة إلى أن الرئيس يتحرك بسرعة الصاروخ في حين أن الحكومة تلاحقه بسرعة السلحفاة، وهو ما لا يستغربه المرء حين يجد أنه لا شيء يتحرك في بر مصر إلا بتوجيهات من الرئيس. وقد صار ذلك معلنا على الملأ، حتى عبرت عنه صحيفة الأهرام (عدد 6 يناير) حين أبرزت في عناوين صفحتها الأولى ما ذكره الرئيس في حفل افتتاح مشروعي تطوير ميناء سفاجة ودمياط أن طلب «عدم التعاقد مع شركات أو مستثمرين لتنفيذ مشروعات إلا بعد العرض عليه». وكان وزير الأوقاف سريع التجاوب مع هذه الرسالة، حتى قرأنا في اليوم التالي بيانا أصدرته الوزارة ذكرت فيه أنه تم إعداد قوائم خطب الجمعة للسنوات الخمس المقبلة، وأن اللجنة المختصة بالأمر سترفع هذه الخطة إلى رئيس الجمهورية.
القرائن التي تؤيد هذه الفكرة تتزايد حينا بعد حين، الأمر الذي ربط مقدرات البلد ومصيرها بشخص رئيس الجمهورية، وهي الخلفية التي دعت وكيل لجنة الخطة والموازنة إلى القول في تصريحات منشورة بأنه إذا لم يترشح الرئيس السيسي لانتخابات الرئاسة المقبلة «فإننا سننتحر».

(2)
كنت قد تطرقت في الأسبوع الفائت إلى موضوع التوجيهات الرئاسية التي باتت تنقلها إلينا وسائل الإعلام كل صباح، وأرجعت ذلك إلى اهتمام الرئيس بالتفاصيل، وذكرت أن الحضور المكثف للرئيس في الفضاء العام له جذور في دستور عام 2014 الذي أضعف سلطات رئيس الوزراء في حين أنه وسع من سلطات رئيس الجمهورية، استشهدت في ذلك بأن دستور 2012 نص على اشتراك الحكومة مع رئيس الجمهورية في وضع السياسة العامة للدولة والإشراف على تنفيذها (المادة 167)، وهو ما تم إلغاؤه في دستور عام 2014. وكان ذلك استدلالا خاطئا نبهني إليه بعض المختصين، الذين ذكروا أن المادة التي أشرت إليها في دستور 2012 لم تلغ في الدستور الجديد. وحين رجعت إلى مؤلف المستشار ماجد شبيطة الذي رجعت إليه تأكدت من صحة خطأ التدليل الذي وقعت فيه. ذلك أن الذي ألغى نص آخر أهم وأبعد أثرا أوردته المادة 122 في دستور عام 2012 قضت بأن «يتولى رئيس الجمهورية مهامه من خلال رئيس الوزراء»، وبمقتضى ذلك لا يحق لرئيس الجمهورية أن يباشر مهامه التنفيذية، باستثناء عدد قليل من الاختصاصات المحددة حصرا إلا بواسطة رئيس مجلس الوزراء، وذلك إعمالا لقاعدة «التوقيع المجاور»، التي في ظلها يصبح الأصل ألا ينفرد الرئيس بالقرار، وإنما يتعين أن يكون القرار ثنائيا بحضور رئيس الحكومة.
ذكر المستشار شبيطة في مؤلفه حول سلطات رئيس الجمهورية أنه حين ألغيت المادة 122 في اجتماعات لجنة الخمسين التي بحثت تعديلات دستور 2012، فإن عضو اللجنة الدكتور خيري عبدالدايم، علق على ذلك قائلا إن الإلغاء يعني أنه أصبح بمقدور رئيس الجمهورية تنفيذ ما يريد قفزا فوق رئيس الوزراء والوزراء، كما أن بوسعه تعيين الموظفين العموميين وإقالتهم دون إخطار أو تشاور، الأمر الذي يعني أن تركيز السلطة في يد الرئيس له جذوره في الدستور الحالي.

(3)
في 9 يوليو عام 2015 أصدر الرئيس عبدالفتاح السيسي قرارا بقانون أجاز لرئيس الجمهورية إعفاء رؤساء وأعضاء الهيئات المستقلة والأجهزة الرقابية من مناصبهم. وكانت تلك إشارة إلى أن استمرار رؤساء تلك الأجهزة في مناصبهم بات معلقا على رضا رئيس الجمهورية رغم أن الدستور نص على استقلالها، وبقية القصة معروفة، لأن ضحية هذا التعديل التشريعي كان المستشار هشام جنينة رئيس جهاز المحاسبات الذي عزل لأنه لم يكن مرضيا عنه.
الذي لا يقل خطورة عن ذلك أن جهدا موازيا بذل من جانب السلطة التنفيذية لإضعاف المجتمع وإخضاع منظماته المدنية لسلطاتها، بحيث لا تبقى في البلد مؤسسة لها استقلالها الحقيقي ولا مجتمع له بعض العافية التي تمكنه من أن يصبح ندا معبرا عن الرأي العام في مختلف القطاعات. ألفت الانتباه في هذا الصدد إلى نماذج ثلاثة ماثلة بين أيدينا كاشفة لمحاولات إخضاع مؤسسات المجتمع وإلحاقها بإرادة السلطة السياسية. هذه النماذج تتمثل فيما يلي:
< المشروع الذي قدم إلى البرلمان لتعديل قانون السلطة القضائية بحيث يصبح تعيين رؤساء الهيئات القضائية (المستقلة؟!) بقرار جمهوري وليس بقرار من مجلس القضاء الأعلى أو الجمعيات العمومية للقضاة. صحيح أن المشروع الذي قدم للبرلمان ينص على أن يصدر الرئيس قراره لاختيار واحد من ثلاثة ترشحهم الجمعيات العمومية، إلا أن ذلك يعني أن الاختيار النهائي سيكون بيد رئيس الجمهورية وليس بيد الجمعيات العمومية للقضاة. فضلا عن أنه يفتح الباب للتنافس على استجلاب رضا الرئاسة للفوز بتلك المناصب. وهو ما يخل باستقلال القضاء ويلحقه عمليا بالسلطة التنفيذية.
التنظيم الجديد للصحافة والإعلام، وقصته طويلة خلاصتها أن دستور عام 2014 أنشأ ثلاث كيانات للإعلام كل واحد منها تديره هيئة وطنية «مستقلة»، ولتنزيل هذه النصوص على أرض الواقع، تولى المجلس الأعلى للصحافة بالتعاون مع نقابة الصحفيين المصريين إعداد مشروع قانون موحد للإعلام، اشترك فيه خبراء ومسؤولون من الجهات المعنية، وبعد الاتفاق على المشروع مع حكومتين متعاقبتين (للمهندس إبراهيم محلب والمهندس شريف إسماعيل)، حدثت مفاجأتان الأولى أن القانون الموحد أصبح اثنين، والثانية أن أصابع خفية تلاعبت بالنصوص الأصلية، بحيث أدت عمليا إلى إخضاع الكيانات الثلاثة لنفوذ الأجهزة التنفيذية، وقيدت من حرية الإعلاميين إلى الحد الذي أعاد إحياء فكرة الحبس في قضايا النشر، وثمة ملاحظات كثيرة في هذا الصدد يهمنا منها أن تعيين رؤساء الكيانات الثلاثة أصبح يتم بقرار من رئيس الجمهورية، الذي يختص فضلا عن ذلك بتعيين ثلاثة آخرين من أعضاء مجلس إدارة كل كيان مستقل(!). صحيح أن ذلك يفترض أن يتم باختيار كل واحد من بين اثنين يرشحهم الإعلاميون والصحفيون، إلا أن الأهم أن رئيس الجمهورية أصبح حاضرا من خلال قراره على رأس كل كيان. ويثير الانتباه في هذا الصدد أن تدخل الرئيس لم يكن واردا في البداية، وأن الأمر كله كان متروكا للجماعة الصحفية، إلا أن ممثل وزير العدل اقترح أن يكون تعيين رئيس كل كيان بقرار من الرئيس، ثم تطور الأمر بحيث أصبح الرئيس يختار واحدا من ثلاثة مرشحين، الأمر الذي انتهى إلى صيغة بسطت سلطة الرئاسة والأجهزة التنفيذية على مصير المؤسسات الصحفية والإعلامية.
النموذج الثالث الذي لا يقل فداحة ويتمثل في مشروع قانون الجمعيات الأهلية، الذي كان قد أعد بتوافق وتفاهم مع وزارة التضامن الاجتماعي، ولكن الأجهزة الخفية تجاهلته وأعدت مشروعا آخر أجازه مجلس النواب، نزع استقلال المنظمات الأهلية، وأخضعها لسلطة الأجهزة الأمنية، الأمر الذي أدى إلى تأميم المجتمع الأهلي، وألغى أي دور حقيقي لمنظمات المجتمع المدني، ولن أفصل في الموضوع، لأنه نال حقه من التشريح والنقد في وسائل الإعلام المصرية.

(4)
المشهد الذي نحن بصدده ليس جديدا تماما، ولكن له جذوره في التاريخ الفرعوني، وقد وفي الدكتور جمال حمدان الموضوع حقه في الجزء الأول من موسوعته «شخصية مصر» إذ أرجع الأمر إلى طبيعة المجتمع الحقيقي الذي حول الفرعون إلى الملك الإله الذي صار ضابطاً للنهر وضابطا للناس، وهو ما ضاعف من قوة السلطة المركزية في مصر. الأمر الذي دفع رفاعة الطهطاوي إلى القول في «مناهج الألباب» بأنه: «ليس في ممالك الدنيا لصاحبها النفوذ الحقيقي الذي لصاحب مصر». واعتبر د. حمدان في تحليله لأصل الطغيان في مصر أنها أصبحت منذ تلك العهود السحيقة بمثابة «ضيعة كبرى للحاكم».
المستشار طارق البشري قدم قراءة معاصرة للظاهرة في كتابه «مصر بين العصيان والتفكك»، إذ أرجع الأمر إلى ما وصفه بشخصنة الدولة التي هي غير الحاكم المطلق أو المستبد. وفي رأيه أن القائم على الدولة المتشخصنة لا تربطه عائلة أو قبيلة ولا نقابة أو جماعة دينية ولا حزب سياسي أو طبقة اجتماعية. إذ هو يسيطر بذاته على مفاتيح السلطة، وتصير آلة الحكم وأجهزته كلها تحت إمرته. ولا يقيده إلا الإمكانات المادية للدولة وأجهزتها في الحركة والنفوذ. وهو يتغلب على ضغط عمال الدولة عليه بأن يشخصن الفئة المحيطة به بإبقائهم في وظائفهم لأطول مدة، بحيث تحل العلاقات الشخصية محل علاقات العمل الموضوعية. الأمر الذي يجعله نظاماً منغلقاً، لا ينفتح على خارج ذاته، ولا تقوم آلية ما لإجراء أي تعديل فيه أو تجديد. لذلك كان صفة لازمة للدولة المتشخصنة هي أن تسعى دائما إلى تثبيت الأمر الواقع ومقاومة التغيير حتى وإن ادعته.
إذ كانت فكرة الضيعة الكبرى للحاكم قد صارت تاريخا، وأن شخصنة الدولة باتت واقعا، فلا نجاة لمصر إلا في الدولة الديمقراطية التي تنسخ ما فات وتوفر لشعبها طوق النجاة في الحاضر والمستقبل.