هل تتعطل آلة الرعاية الصحية؟

مقالات رأي و تحليلات الخميس ١٢/يناير/٢٠١٧ ٠٤:٠٠ ص
هل تتعطل آلة الرعاية الصحية؟

سبنسر نام

على الرغم من كل الآلات الذكية التي تتولى تشغيل أنظمة التصنيع المعقدة وتحل على نحو متزايد محل البشر في المصانع، فإنها لم تحقق نجاحات كبيرة في مجال الرعاية الصحية. فلا تزال الآلات الأكثر تقدما في هذا القطاع، من أدوات التصوير الفائقة الدقة إلى الروبوتات الجراحية، خاضعة لسيطرة البشر بالكامل.

ولكن مع اكتساب الروبوتات وأنظمة الذكاء الاصطناعي المزيد من التقدم والتطور، فهل يصبح من الممكن الاستغناء عن الأطباء والممرضين ذات يوم، فيستشير المريض جهاز كمبيوتر بدلا من ذلك؟ الإجابة القصيرة هي: ليس في أي وقت قريب. من المؤكد أن العاملين في مجال الرعاية الصحية سوف يعتمدون بشكل متزايد على الآلات؛ ولكن التكنولوجيا ستزيد من قدراتهم ولكنها لن تحل محلهم، وسوف يظل الأطباء متحكمين في الممارسات الطبية.

في كتابه الصادر في عام 2009 بعنوان «وصفة المبدِع»، حَدَّد كلايتون كريستنسن من كلية إدارة الأعمال في جامعة هارفارد مجموعة من الممارسات الطبية التي تتراوح بين «الحدس» و»الدقة». يَصِف الطب الحدسي عندما يفسر طبيب أعراض أحد المرضى لكي يصل إلى التشخيص ويصف العلاج، والذي تكون فعاليته غير مؤكدة غالبا. أما الطب الدقيق ــ الذي لا ينبغي لنا أن نخلط بينه وبين الطب الشخصي ــ فيصف عملية قائمة على القواعد يجري بموجبها تطبيق علاجات قياسية ويمكن التنبؤ بنتائجها على حالات صحية معروفة.
يرى كريستنسن أن أغلب الطب الذي يُمارَس اليوم أقرب إلى الجانب الحدسي من الطيف، وأن عددا قليلا فقط من الأمراض، الناتجة عن عدوى في المقام الأول، يمكن علاجها باستخدام الطب الدقيق. والواقع أن مفهوم الطب الدقيق في الوقت الراهن يُطَبَّق بشكل غير صحيح لتحسين نتائج الطب الحدسي فحسب، بدلا من تحديد الآليات المسببة للأمراض. وما دامت هذه هي الحال، فسوف تظل الدراية البشرية والمشاركة تشكل جزءاً لا يتجزأ من الرعاية الصحية.
يتطلب علاج أعراض غير محددة، في غياب خريطة طريق موصوفة، الثقة الموفورة وعملية اتخاذ القرار الفعّالة، وهو ما يشكل عقبة كبيرة أمام الآلات. فبعد ملايين السنين من التطور، اكتسب البشر القدرة على استخدام الحس الحدسي القائم على القرينة والذي يمكن الأطباء المدربين من اتخاذ قرارات واعية ودقيقة التوقيت في سياقات غير مؤكدة وتفتقر إلى البيانات. وسوف تحتاج حتى أكثر أنظمة الذكاء الاصطناعي التي نملكها اليوم تطورا إلى تحسينات كبيرة حتى يتسنى لها أن تحاكي مثل هذه القدرة.
ويشكل التواصل مع المرضى تحديا أعظم للآلات. ذلك أن شرح الفوارق الدقيقة العديدة لأشكال مرض غامض مثل السرطان يتطلب توفر الذكاء العاطفي والقدرة على بناء الثقة مع المرضى من خلال تسليم المعلومات بفعالية. ويتعين على الأطباء أن يُظهِروا أيضا التواضع الثقافي، بحيث يصبح بوسعهم أن يضعوا في الاعتبار الخلفية الاجتماعية للمريض عند تقديم الرعاية له. وقد لا تتمكن الآلات في المستقبل المنظور من محاكاة البشر في مساعدة المرضى المصابين بأمراض مزمنة والذين لا يزال تشخيص مرضهم غير مؤكد.
ولكن على الرغم من القيود التي تحد من قدرة الآلات الذكية، فسوف تستمر في الاضطلاع بدور أكبر في مجال الرعاية الصحية، حتى في مجال الطب الحدسي. فبفضل قدرتها التحليلية المتفوقة، بات بوسع الآلات بالفعل توفير المزيد من البيانات التي يقيم عليها الأطباء قرارات التشخيص والعلاج. كما تتولى الآلات بشكل متزايد مراقبة المرضى، وتساعد في منع الأخطاء البشرية في المستشفيات والصيدليات. وقريبا سوف تتولى الآلات أداء المزيد من الوظائف المساعِدة، مثل القبول وتنظيم الجداول وأوامر الخروج.
ولكن مرة أخرى، إلى أن يتجاوز نطاق الطب الدقيق نطاق الطب الحدسي، سوف يستمر العاملون في مهنة الرعاية الصحية في اتخاذ القرارات الطبية وتفسير البيانات. ما هي إذن احتمالات حدوث مثل هذا التحول؟
حتى منتصف القرن التاسع عشر، كانت الأمراض الناجمة عن عدوى بكتيرية أو فيروسية تُعالَج بواسطة الطب الحدسي، لأن أحدا لم يكن آنذاك نجح في عزل السبب وراء الأعراض التي يشكو منها المرضى. ثم وضع لويس باستير وغيره من العلماء النظرية الجرثومية، وتحسنت المجاهر، وبدأ العلماء يحددون أحجام وأشكال الميكروبات.
على مدار القرن الماضي، تحسن فهمنا العلمي للجراثيم بدرجة كبيرة إلى الحد الذي بات من الممكن معه الآن تشخيص وعزل كل بكتيريا أو فيروس بسرعة. وبهذا تمكن العاملون في مهنة الرعاية الصحية من التحول من ممارسة الطب الحدسي إلى ممارسة الطب الدقيق، حيث يمكنهم تطبيق عمليات موحدة يمكن التنبؤ بقدرتها على علاج الأمراض. وبالاستعانة بطرق بسيطة وغير مكلفة، نجحنا في القضاء على أمراض فتاكة مثل شلل الأطفال والجدري. ومؤخرا، اكتشف الباحثون لقاحا لمرض الإيبولا يوفر الحماية ضد الفيروس بنسبة 100%.
ذات يوم، عندما نكتسب مستوى مماثلا من الفهم للكيمياء الحيوية وعلم وظائف الأعضاء في الجسم البشري، سوف يصبح بوسعنا تطبيق الطب الدقيق على كل فئات الأمراض. وسوف نتمكن من تحديد السبب وراء كل مرض ونشخصه بدقة، وسوف تعمل الآلات بقدر أكبر من الاستقلال، في إطار بيئة قياسية، لتقديم العلاج الدقيق الذي يحتاج إليه كل مريض.
وتماما كما أرست العمليات القائمة على القواعد الأساس لظهور السيارات الذاتية القيادة، فسوف يعمل الطب الدقيق بشكل مطرد على زيادة أهمية الآلات الخارقة التي تعمل بشكل مستقل في مجال الرعاية الصحية. الآن يبدو وصف المضادات الحيوية لعلاج العدوى ممارسة روتينية بالفعل. وفي نهاية المطاف، سوف يتمتع المرضى بنفس الثقة في الآلات لتقديم الرعاية لهم؛ ومع تحسن فهمنا للأمراض، تصبح التفاعلات الشخصية أقل ضرورة.
لا ينبغي لنا أن نتوقع أن تحل الآلات محل العاملين في مهنة الرعاية الصحية لبعض الوقت، ولكن إدخال التكنولوجيات الجديدة على المشهد المتطور لهذا القطاع سوف يستمر، وينبغي لنا أن نرحب بها. وسوف تصبح الرعاية الصحية أكثر بساطة وأقل تكلفة وأيسر منالا مع ممارسة المزيد من الطب الدقيق والإقلال من الطب الحدسي. ومن خلال فهم الأمراض التي يعاني منها المرضى بدقة، يصبح بوسعنا أن ندفع الطب خطوة أخرى أقرب إلى تحقيق غايته النهائية: توفير رعاية من الطراز الأول تتمحور حول كل مريض بعينه.

زميل باحث في معهد كلايتون كريستنسن للابتكار التخريبي.