عولمة غير عادلة

مقالات رأي و تحليلات الخميس ٣٠/مارس/٢٠١٧ ٠٤:٥٥ ص

جيريمي أدلمان
أن لور ديلات

«أمريكا أولا» هكذا يردد دونالد ترامب بحماسة وحدة، أما مؤيدو الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي فيقولون «بريطانيا أولا»، وتصيح مارين لوبن وجبهتها الوطنية «فرنسا أولا»، ويعلن كرملين فلاديمير بوتين أن «روسيا أولا». في ظل تأكيد شديد كهذا على السيادة الوطنية، يبدو مآل العولمة إلى الفشل.

لكن الأمر ليس كذلك. فالصراع المتنامي اليوم ليس صراعا بين العولمة ومناهضيها، بل إن حقيقة الوضع هي أن العالم متأرجح بين نموذجين للتكامل: أحدهما متعدد الأطراف مؤمن بالدُولية، والآخر يميل إلى الثنائية والإمبريالية. وبين هذين النموذجين تأرجح العالم طوال العصر الحديث.

منذ العام 1945 كانت اليد العليا للمؤمنين بالدولية. فقد أيدوا التعاون وساندوا المؤسسات متعددة الأطراف لتعزيز المنافع العامة العالمية كالسلام، والأمن، والاستقرار المالي، والاستدامة البيئية. ويتسم النموذج الذي تبنوه بتقييده للسيادة الوطنية من خلال إجبار الدول على أعراف ومواثيق ومعاهدات مشتركة.

وجاء العام 2016 ليرجح الكفة نحو أنصار النزعة الثنائية الذين يعتبرون السيادة الوطنية غاية في حد ذاتها. ومبدأهم في ذلك هو أنه كلما قلت القيود الخارجية، كان ذلك أفضل: فالسلام والأمن ينتجان من توازن القوى العظمى. ويتسم نموذجهم بأنه يحابي القوي ويعاقب الضعيف، كما أنه يكافئ المنافسين على حساب المتعاونين.

في معظم فترات القرن التاسع عشر، كان التكامل مزيجا من الدولية والإمبريالية، حيث أضحت التجارة الحرة شيئا مقدسا، وباتت الهجرة الجماعية موضع ترحيب، وتبنت الدول مواثيق دولية كاتفاقية جنيف الأولى، التي أُبرمت عام 1864 لتغطية علاج المرضى والجرحى في ساحة المعركة. وربما كان أنصار العولمة متجبرين أيضا: فقد أخضعت معاهدة نانجينج التي وقعتها بريطانيا والصين عام 1842 المملكة الوسطى لسيطرة الغرب. كما تجلى الوجه الأقبح للإمبريالية الثنائية في تقطيع أوصال القارة الأفريقية وتقسيمها إلى ممتلكات حصرية على أيدي الأوروبيين.

كانت للنزعة الثنائية اليد العليا في أحلك فترات التاريخ البشري وأصعبها. فخلال الفترة ما بين عامي 1914 و1945، أفضى اللهاث وراء العظمة القومية إلى تنافس اقتصادي هدام وعنف جماعي. وهوى نظام عالمي كان يصارع من أجل البقاء إثر انهيار بورصة وول ستريت عام 1929. وأخذت دولة تلو الأخرى تتجه نحو الانكفاء على ذاتها، حتى انهارت التجارة العالمية بحلول العام 1933 وتقلصت إلى ثلث حجمها مقارنة بالعام 1929.
تحولت العولمة إلى حيوان مفترس مشحون بمشاعر العنصرية والمخاوف من التكدس ومزاحمة الآخرين: إذ فرضت الدول القوية اتفاقيات تجارية غير عادلة على الجيران والشركاء، أو ببساطة احتلتها. فقد وضعت اليابان عينها على منشوريا عام 1931 لتوجد منها دولة دمية، وقامت بغزو الصين عام 1937. وتعامل السوفييت مع الأراضي المتاخمة للحدود الروسية بنفس الروح. وفرض النازيون معاهدات على عدد من الدول المجاورة الأضعف واستولوا على دول أخرى، ثم سعوا إلى إخلاء الأراضي السلافية من سكانها لصالح مستوطنين تيتونيين (جرمانيين).
دفعت وحشية الثنائية كلا من الرئيس الأمريكي فرانكلين ديلانو روزفلت ورئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل إلى وضع ميثاق الأطلسي عام 1941. وقد أعلن هذا الميثاق -باعتباره مخطَّطا أساسيا لنظام ما بعد الحرب- أن الحرية هي أساس السلام، وأن تقييد النزعة الثنائية وكبح جماحها أمر واجب، إضافة إلى إقراره مبادئ أخرى مثل: وقف انتزاع الأراضي، ووقف جباية التعريفات بالقوة، وحرية البحار.
وكان مما تمخض عن انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية وميثاق الأطلسي التوصل لصفقة عالمية جديدة مفادها: أن الدول التي ستوافق على الالتزام بالقواعد والأعراف الدولية سيكون بوسعها المشاركة في خيرات وثروات ما بعد الحرب. وكان التكامل الأوروبي جزءا أساسيا في صلب تلك التجربة في العولمة متعددة الأطراف، حيث أصبحت أوروبا، التي كانت موطنا للنزاع الدائم، منطقة للتعاون المثالي بعد إبرام التصالح بين فرنسا وألمانيا.
وبفضل كبح السيادة الوطنية، تمكنت التجارة العالمية والاستثمار والهجرة من تعزيز رخاء ما بعد الحرب. ونجا بلايين الأشخاص من الفقر، وأمكن الحفاظ على سلام نسبي.
لكن يبدو أن الصفقة العالمية الجديدة قد أكملت دورتها. فقد أصبح العالَم في نظر كثيرين مكانا فوضويا ومحبطا ومهددا على عكس ما تصوره ميثاق الأطلسي. فبعد العام 1980، صاحب التكامل العالمي اتساع فجوات التفاوت المحلية، وبينما اتسعت آفاق الفرص للمواطنين العالميين (الكوزموبوليتان) المثقفين في المدن الكبرى، ضعفت الروابط بين مواطني الداخل مع تفكيك العقود الاجتماعية الوطنية.
ومع تعمق الفجوات الداخلية بسبب ضبابية التقسيمات العالمية، بات المسرح مهيأ لعودة مناصري الثنائية بقوة. فهناك قادة مثل الرئيس الروسي فلاديمير يتوقون إلى العودة إلى عالَم تغلب عليه السيادة العضلية، ولا تقيده الضرورات المتعددة الأطراف. وقد أضحى لمثل هؤلاء القادة الآن مزيد من الرفقاء في دول رئيسة. فقد أعلن ترامب بعد يومين من تنصيبه أن الولايات المتحدة قد تحظى بـ»فرصة أخرى» للاستيلاء على النفط العراقي. بعد ذلك أعلن انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية الشراكة التجارية عبر الهادي، وتعهد بإعادة التفاوض بشأن اتفاقية التجارة الحرة لشمال أمريكا. والآن أصبح مستقبل اتفاق باريس للمناخ، والذي تم التوصل إليه بصعوبة، موضع شك. كما تزايدت اتهامات التلاعب بالعملة والتهديدات بإجراءات حمائية. ومع اختيار بريطانيا قرار الانفصال والاستغناء عن الآخرين، وهي الدولة التي فتحت أمام العالم طريق التجارة الحرة في أربعينيات القرن التاسع عشر، أصبح حلفاء ميثاق الأطلسي القدامى يقدمون السيادة الوطنية في الأهمية على المنافع العامة العالمية.
والآن تتجه الأضواء العالمية نحو فرنسا وانتخاباتها الرئاسية التي تلوح في الأفق. فقد أصبح المحرك الفرنسي الألماني المنهك على حافة الخطر، وهو الذي قاد التكامل الأوروبي وحافظ عليه كمركز للنظام المتعدد الأطراف في مرحلة ما بعد الحرب. إن انتصار لوبان في أوائل مايو المقبل قد يكتب نهاية الاتحاد الأوروبي، وحينها ستكون المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل الركن الأخير لنظام عالمي متهاو. عندها قد تصبح الدولة التي تعرضت لأكبر قدر من التغيير وإعادة التشكيل بفعل دُولية ما بعد العام 1945، المعقل الأخير للدولية، محاطة بأنصار الثنائية في فرنسا، وبريطانيا، وروسيا، مع وقوع الولايات المتحدة، الراعي الرئيسي للدولية، في أيدي المعادين للمهاجرين. تخيّل المشهد بعد أسابيع قليلة وقد فازت لوبن واجتمع قادة مجموعة السبع في فندق فخم في مدينة تاورمينا بصقلية: الولايات المتحدة وكندا تتنازعان بشأن اتفاقية التجارة الحرة لشمال أمريكا. بريطانيا تتشاحن مع فرنسا وألمانيا بسبب الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي. اليابان تترنح بسبب انهيار الشراكة التجارية عبر الهادئ. وبينما يدير هؤلاء القادة ظهورهم لتعهداتهم الدولية، ينقش اللاجئون الغارقون تحت وطأة قواربهم الزائدة الحمولة في البحر المحيط كلمات الرثاء على ضريح عهد ولّى.

جيريمي أدلمان: مدير مختبر

التاريخ العالمي في جامعة برينستون.

أن-لور ديلات: مديرة مركز الدراسات

والمعلومات الدولية، باريس.