حافة المقبرة الجيوسياسية

مقالات رأي و تحليلات الخميس ١١/مايو/٢٠١٧ ٠٤:٢٠ ص
حافة المقبرة الجيوسياسية

نورييل روبيني

مع تمكن إيمانويل ماكرون من إيقاع الهزيمة بالزعيمة الشعبوية اليمينية المتطرفة مارين لوبان في الانتخابات الرئاسية الفرنسية، تفادى الاتحاد الأوروبي واليورو رصاصة قاتلة. ولكن المخاطر الجيوسياسية مستمرة في التكاثر. ولن يكون انتصار ماكرون كافيا لتهدئة ردة الفعل الشعبوية العنيفة ضد العولمة في الغرب، والتي ربما تؤدي إلى تعزيز نزعة الحماية، وإشعال الحروب التجارية، وفرض قيود صارمة على الهجرة. وإذا سيطرت قوى التشرذم فقد يؤدي انسحاب المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي إلى تفكك الاتحاد الأوروبي في نهاية المطاف سواء في وجود ماكرون أو غيابه.

في الوقت نفسه، تواصل روسيا سلوكها العدواني في البلطيق، والبلقان، وأوكرانيا، وسوريا. ولا يزال الشرق الأوسط يحتوي على دول عديدة شبه فاشلة، ولا تُبدي حروب الوكالة بين المملكة العربية السعودية وإيران أي بادرة تشير إلى أنها قد تضع أوزارها قريبا.

وفي آسيا، ربما تؤدي سياسة حافة الهاوية من قِبَل الولايات المتحدة أو كوريا الشمالية إلى التعجيل بنشوب صراع على شبه الجزيرة الكورية. وتواصل الصين الانخراط في منازعاتها على الأراضي مع جيرانها الإقليميين وفي بعض الأحيان تصعيد هذه المنازعات.
رغم هذه المخاطر الجيوسياسية، بلغت الأسواق المالية العالمية ارتفاعات غير مسبوقة. لذا فإن الأمر يستحق أن نسأل ما إذا كان المستثمرون يقللون من تقديرهم لجسامة واحد أو أكثر من هذه الصراعات وإمكانية تسببها في إشعال شرارة أزمة أشد خطورة، وماذا يتطلب الأمر لإخراجهم من حالة الرضا عن الذات.
هناك العديد من التفسيرات لتجاهل الأسواق للمخاطر الجيوسياسية. فبادئ ذي بدء، في حين يحترق قسم كبير من الشرق الأوسط، لم تحدث صدمات مرتبطة بإمدادات النفط أو قرارات حظر، كما زادت ثورة الغاز الصخري في الولايات المتحدة من إمدادات الطاقة المنخفضة التكلفة. خلال صراعات سابقة في الشرق الأوسط -مثل حرب أكتوبر عام 1973، والثورة الإسلامية في إيران عام 1979، وغزو العراق للكويت عام 1990- تسببت صدمات إمدادات النفط في إحداث حالة عالمية من الركود التضخمي والتصحيحات الحادة في أسواق الأسهم.
ويتلخص تفسير ثان في أن المستثمرين يستنتجون الأحداث من صدمات سابقة، مثل هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001، عندما سارَع صناع السياسات إلى إنقاذ الموقف بدعم الاقتصاد والأسواق المالية من خلال تيسير السياسات النقدية والمالية بقوة. وبفضل هذه السياسات تحولت تصحيحات السوق بعد الصدمة إلى فرص للشراء، لأن هبوط أسعار الأصول تحول في الاتجاه المعاكس في غضون أيام أو أسابيع.
ثالثا، لم تكن الدول التي شهدت بالفعل صدمات محلية في أسواق الأصول -مثل روسيا وأوكرانيا بعد ضم روسيا لشبه جزيرة القرم والتوغل في شرق أوكرانيا في العام 2014- كبيرة اقتصاديا بالقدر الكافي للتأثير على الأسواق المالية الأمريكية أو العالمية. وعلى نحو مماثل، حتى رغم ملاحقة المملكة المتحدة لخطة «الخروج الصعب» من الاتحاد الأوروبي، فإنها تظل تمثل نحو 2 % فقط من الناتج المحلي الإجمالي العالمي.
ويزعم تفسير رابع أن العالَم نجا حتى الآن من مخاطر التقلبات الحادة المرتبطة بالدمار الجيوسياسي اليوم. ولم ينشب حتى الآن صراع عسكري مباشر بين أي قوى عظمى، ولم يتفكك الاتحاد الأوروبي أو منطقة اليورو. وجرى احتواء سياسات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الشعبوية الأكثر تطرفا بشكل جزئي. ولم يشهد الاقتصاد الصيني حتى الآن هبوطا حادا، وهو ما كان ليسفر عن حالة من عدم الاستقرار الاجتماعي السياسي.
علاوة على ذلك، تواجه الأسواق صعوبات في تسعير مثل هذه الأحداث «النادرة» أو «المجهولات المجهولة» التي ربما تكون احتمالات حدوثها ضئيلة، ولكنها مكلفة للغاية. على سبيل المثال، ما كانت الأسواق لتتنبأ بهجمات الحادي عشر من سبتمبر. وحتى إذا تصور المستثمرون أن هجمة إرهابية كبيرة أخرى سوف تقع لا محالة، فلا يمكنهم أن يعرفوا متى.
وربما تتحول المواجهة بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية أيضا إلى حدث نادر، ولكنه احتمال تجاهلته الأسواق بسرور. وأحد الأسباب وراء هذا أنه رغم تهديدات ترامب الصاخبة، فإن الخيارات العسكرية الواقعية المتاحة للولايات المتحدة قليلة للغاية، فربما تستخدم كوريا الشمالية أسلحة تقليدية لكي تمحو من على الخريطة مدينة سول والمناطق المحيطة بها، إذ يعيش ما يقرب من نصف سكان كوريا الجنوبية، إذا تحركت الولايات المتحدة ضدها. وربما يفترض المستثمرون أنه حتى في حالة حدوث مناوشات عسكرية محدودة، فلن يتصاعد الأمر إلى حرب كاملة، ومن الممكن أن يعمل تخفيف السياسات على تهوين الضربة التي قد يتلقاها الاقتصاد والأسواق المالية. وفي هذا السيناريو، كما كانت الحال بعد هجمات سبتمبر الإرهابية، فإن التصحيح الأولي للسوق قد يتحول إلى فرصة للشراء.
ولكن الأمر لا يخلو من سيناريوهات أخرى محتملة، وقد يتبين أن أحدها يندرج تحت فئة الأحداث النادرة. ونظرا للمخاطر المرتبطة بالعمل العسكري المباشر، تذهب بعض المزاعم الآن إلى أن الولايات المتحدة تستخدم أسلحة سيبرانية للقضاء على تهديد كوريا الشمالية النووية للبر الرئيسي للولايات المتحدة. وربما يفسر هذا لماذا فشل عدد كبير من اختبارات كوريا الشمالية الصاروخية في الأشهر الأخيرة. ولكن كيف قد ترد كوريا الشمالية على قطع رأسها عسكريا؟
ربما تكون إحدى الإجابات في شن هجوم سيبراني. فمن المعروف أن قدرات كوريا الشمالية في مجال الحرب السيبرانية لا تقل كثيرا عن مثيلاتها في روسيا والصين، وقد رأى العالم لمحة مبكرة من هذه القدرات في العام 2014 عندما اخترقت سوني بيكتشرز. وربما يتسبب هجوم سيبراني كبير تشنه كوريا الجنوبية في تعجيز أو تدمير أجزاء من البنية الأساسية الحيوية في الولايات المتحدة، وإحداث أضرار اقتصادية ومالية هائلة. ويظل هذا الخطر قائما حتى لو تمكنت الولايات المتحدة من تخريب النظام الصناعي والبنية الأساسية في كوريا الشمالية بالكامل.
أو ربما تلجأ كوريا الشمالية في مواجهة تعطل برنامجها الصاروخي ونظامها إلى التكنولوجيا المتدنية، بإرسال سفينة تحمل قنبلة قذرة إلى موانئ لوس أنجلوس أو نيويورك. ومن المرجح أن يكون رصد أو منع هجوم من هذا القبيل أمرا بالغ الصعوبة.
وعلى هذا، ففي حين قد يكون المستثمرون على حق في استبعاد خطر الصراع العسكري التقليدي بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية، فربما يهونون أيضا من تهديد وقوع حدث نادر حقا، مثل اندلاع حرب سيبرانية تخريبية بين البلدين أو وقوع هجوم بقنبلة قذرة ضد الولايات المتحدة.
تُرى هل يكون التصعيد على شبه الجزيرة الكورية فرصة «للشراء خلال الانخفاض»، أو أنه قد يكون بداية لانهيار ضخم للسوق؟ من المعلوم أن الأسواق من الممكن أن تسعر «المخاطر» المرتبطة بالتوزيع الطبيعي للأحداث التي يمكن تقديرها وقياسها إحصائيا. ولكنها تواجه مشكلة أكبر في التعامل مع «عدم اليقين على غرار نايت»: الخطر الذي لا يمكن حساب احتمالاته.

الرئيس التنفيذي لمؤسسة روبيني ماكرو أسوشيتس وأستاذ الاقتصاد في كلية شتيرن لإدارة

الأعمال في جامعة نيويورك