هل بلغت الشعبوية ذروتها؟

مقالات رأي و تحليلات الخميس ١٨/مايو/٢٠١٧ ٠٤:٤٤ ص
هل بلغت الشعبوية ذروتها؟

فيليب ليجرين

بعد العام الفائت، عندما صوتت المملكة المتحدة لصالح الانسحاب من الاتحاد الأوروبي وانتخبت الولايات المتحدة دونالد ترامب رئيسا لها، بدا الأمر وكأن القومية الكارهة للأجانب صارت لا تقهر. ومع هذا، أصبحت فرنسا الآن أكبر قوة خالفت هذا الاتجاه، فانتخبت إيمانويل ماكرون، الليبرالي الاجتماعي المؤيد للهجرة والمؤيد لأوروبا، رئيسا لها. فهل بلغت موجة الشعبوية اليمينية في الغرب ذروتها حقا، كما يزعم بعض المراقبين؟

من المؤكد أن النصر غير العادي الذي حققه ماكرون يستحق الاحتفال. فعندما وقف بوصفه مرشحا وسطيا مستقلا في أول انتخابات يخوضها، وَدَّع ماكرون مرشحي الأحزاب الراسخة في الجولة الأولى قبل أسبوعين وفاز بنحو ثلثي الأصوات في الجولة الثانية ضد زعيمة الجبهة الوطنية اليمينية المتطرفة مارين لوبان. وباعتباره المرشح المتقدم الوحيد الذي يسلك خطا قويا ضد الرئيس الروسي فلاديمير بوتن، واجه ماكرون في اللحظة الأخيرة تسريبات لرسائل بريد إلكتروني (مزيفة) وغير ذلك من المحاولات لتشويه سمعته.

حقق ماكرون كل هذا من خلال تقديم رسالة أمل لبلد غاضب ومكتئب. فقدم نفسه بوصفه رجلا ديناميكيا من خارج الدائرة المعتادة وقادرا على جلب التغيير إلى نظام سياسي متجمد. والواقع أن شبابه ــ فهو في التاسعة والثلاثين فقط من عمره ــ يعزز صورة التجديد. وكما كانت الحال مع رئيس الوزراء الكندي جوستين ترودو، فقد ساعدته وسامته وسِحر شخصيته أيضا.
بيد أن الوفاء بوعد التغيير لن يكون سهلا. فكما هي حال بريطانيا والولايات المتحدة، تظل فرنسا منقسمة بعمق بين هؤلاء الذين يفضلون مجتمعا ليبراليا مفتوحا وأولئك الذين يسعون إلى سياسة مغلقة وحدود مغلقة، بين أنصار التكامل الأوروبي والعالمي وأنصار القومية وسياسات الحماية.
الواقع أن فوز ماكرون بهامش كبير على لوبان مضلل، فهو يحجب تفتت واستقطاب المجتمع الفرنسي. ففي الجولة الأولى، صوت نصف الناخبين فقط لصالح مرشحين مؤيدين للاتحاد الأوروبي في عموم الأمر، في حين دعم النصف الآخر مرشحين يمقتون الاتحاد الأوروبي بشكله الحالي، سواء من اليسار المتطرف أو اليمين المتطرف. ورغم أن ماكرون حصل على أعلى نسبة من الأصوات في الجولة الأولى، فإنه حصل فقط على 24% من الأصوات ــ أعلى من لوبان بنحو ثلاث نقاط مئوية فقط، وهي أقل نسبة يحصل عليها المرشح المتقدم للسباق الرئاسي منذ جاك شيراك في العام 2002.
ومثل شيراك ــ الذي واجه جان ماري (والد مارين لوبان) في الجولة الثانية العام 2002 ــ سجل ماكرون انتصارا ساحقا في الجولة الثانية ليس لأنه استحوذ على قلوب وعقول الناخبين الفرنسيين، بل لأن كثيرين منهم لم يتمكنوا من حمل أنفسهم على التصويت لصالح الجبهة الوطنية. ورغم أن أداء لوبان كان أسوأ من المتوقع، فإن حصتها التي بلغت 34% من الأصوات في الجولة الثانية تكاد تعادل ضعف ما حصل عليه والدها في العام 2002. في النظام الفرنسي شبه الرئاسي، لا يستطيع ماكرون أن يحقق التغيير الذي وعد به إلا من خلال أغلبية داعمة في الجمعية الوطنية. ومع ذلك، من غير المؤكد على الإطلاق ما إذا كان الناخبون الفرنسيون سوف يقدمون له هذه الأغلبية في الانتخابات التشريعية الشهر المقبل: فقد أشار استطلاع أخير للرأي إلى أن 61% من الناخبين لا يريدون أن يحصل ماكرون على الأغلبية.
تشير بعض التوقعات إلى أن حركة «إلى الأمام»، وهي الحركة السياسية التي أسسها ماكرون قبل عام واحد والتي ستخوض الانتخابات تحت اسمها الجديد «الجمهورية إلى الأمام»، سوف تبرز بوصفها المجموعة البرلمانية الأكبر، ولكنها لن تحصل على الأغلبية اللازمة. ويتوقع بعض المراقبين أن يتقدم السباق الجمهوريون الذين يشعرون بأنهم يستحقون أن يتولوا الحكم بعد خمس سنوات من حكم الاشتراكيين الذي لم يحظ بشعبية كبيرة. بل وربما يفوزون بالأغلبية، فيضطر ماكرون إلى تعيين رئيس وزراء محافظ وحكومة محافظة.
كما تعتمد آفاق ماكرون على عدد الساسة الاشتراكيين والجمهوريين الذين خاب رجاؤهم (أو الانتهازيين) والذين سيختارون حركة إلى الأمام، ناهيك عن قدرة ماكرون على عقد الصفقات مع الأحزاب والمرشحين. وإذا لم يفز أي مرشح في أي دائرة بالأغلبية من الجولة الأولى، يذهب أعلى مرشحين حصدا للأصوات، ومعهم أي مرشح حاصل على أكثر من 12.5% من الأصوات، إلى الجولة الثانية. وبالتالي فإن التحالفات الانتخابية تشكل أهمية بالغة لتأمين انسحاب ودعم المرشحين الأقل شعبية الذين ربما يسحبون الأصوات بعيدا عن مرشحي حركة إلى الأمام، والذين سيكون نصفهم من الوافدين الجدد على عالَم السياسة.
والحصول على أغلبية عاملة ليس سوى خطوة أولى. فإذا نجح ماكرون فسوف يكون في احتياج إلى جلب الهزة السياسية والاقتصادية التي وعد بها، إلى البلد الذي قاوم الإصلاح لعقود من الزمن. لقد سأم أغلب الناخبين الفرنسيين الطبقة السياسية التي ترعى مصالحها الشخصية في حين تهمل مخاوفهم وهمومهم. ويريد ماكرون أن يجعل النظام السياسي أكثر انفتاحا وخضوعا للمساءلة، وأن يكون تمويل الأحزاب السياسية أكثر شفافية. وهو يريد منع الساسة من تعيين أقاربهم، وتكديس المناصب المدفوعة الأجر، وجمع معاشات التقاعد السخية. وهو يريد خفض عدد النواب البرلمانيين بمقدار الثلث.
على الجبهة الاقتصادية، يتعين على ماكرون أن يعمل على تشحيم مفاصل الأسواق المتصلبة وتخفيف العبء الضريبي والتنظيمي المفروض على المجازفين، في حين يساعد الناس على التأقلم مع الاتجاهات المعَطِّلة للنظم القديمة مثل العولمة والأتمتة. وفي المقام الأول من الأهمية، ينبغي له أن يعمل على الحد من البطالة، وخاصة بين الشباب، الذين أصبح ربعهم تقريبا عاطلين عن العمل.
يستلزم كل هذا أن يتغلب ماكرون أولا على المصالح الخاصة الراسخة. ومن الواضح أن حتى المواطنين العاديين، برغم أنهم يدركون إلى حد كبير أن النظام مختل، كثيرا ما يقاومون التغيير، خشية أن يخسروا ما لديهم أياً كان.
ولكن لعل التحدي الأكبر الذي يواجه ماكرون يتمثل في إقناع مستشار ألمانيا المقبل الذي من المقرر أن يُنتَخَب في سبتمبر بالعمل معه على إصلاح منطقة اليورو. وسوف يتطلب النهج الأكثر مرونة ودعما للنمو أن تعمل ألمانيا على معالجة فائض الحساب الجاري الضخم الذي بلغ 8.6% من الناتج المحلي الإجمالي. وهنا، ربما تكون الضغوط من قِبَل ترمب مفيدة.
يحتاج ماكرون أيضا إلى بناء منطقة يورو أكثر تكاملا وفعالية وديمقراطية، ولها ميزانية خاصة، ووزير مالية، وبرلمان. وإذا كانت ألمانيا جادة بشأن إنجاح العملة الموحدة، فينبغي لها أن تنخرط في العمل بشكل بنّاء مع ماكرون. وإذا لم تفعل ــ أو إذا فشل ماكرون في إصلاح فرنسا ــ فربما تنتهي الديمقراطية الليبرالية إلى حال أسوأ كثيرا. كان ماتيو رينزي، مثله في ذلك كمثل ماكرون، في التاسعة والثلاثين من عمره عندما أصبح رئيسا لوزراء إيطاليا في العام 2014، على وعد بتحريك المياه الراكدة. ولكن رينزي فشل في تغيير الكثير، وسرعان ما فقد شعبيته، واستقال بعد خسارته الاستفتاء في ديسمبر الفائت، تاركا الشعبويين المناهضين لأوروبا في المكان المناسب للفوز بالانتخابات التالية. ولا نملك الآن غير الأمل في أن يأتي أداء ماكرون أفضل كثيراً.

المستشار الاقتصادي الأسبق

لرئيس المفوضية الأوروبية