بشائر نهر اللؤلؤ في الصين

مقالات رأي و تحليلات الأربعاء ٠٧/يونيو/٢٠١٧ ٠٤:٠٠ ص

أندرو شنج - شياو قنج

يوافق الأول من يوليو المقبل الذكرى العشرين لعودة هونج كونج إلى الصين، بعد ما يزيد عن قرن من الحكم الاستعماري البريطاني. وتحل هذه الذكرى في وقت يتهافت فيه قادة الصين على الترويج لدور هونج كونج الفريد في دفع حركة التنمية الاقتصادية بالدولة.

قبل شهرين، أفصح رئيس الوزراء، لي كه تشيانج، عن عزم الصين تعميق التعاون الاقتصادي عبر منطقة خليج جوانجدونج-هونج كونج-ماكاو -التي أطلق عليها محللو هونج كونج اسم دلتا نهر اللؤلؤ- بُغية تعزيز دورها كمحرك رئيسي للتنمية المستدامة. ويشمل هذا الإقليم مدن جوانجدونج التسع الرئيسية ومن بينها قوانتشو، وفوشان، وشنجن إضافة إلى هونج كونج وماكاو. وقد وصل عدد سكان دلتا نهر اللؤلؤ في العام الفائت إلى 68 مليون نَسَمة، بينما بلغ ناتجها المحلي الإجمالي 3.1 تريليون دولار.
وتمثل دلتا نهر اللؤلؤ الركن الجنوبي لمجموعات النمو الساحلية الثلاث في الصين. أما في الوسط، فتوجد دلتا نهر يانجتسي، التي تضم مدينة شنجهاي، إذ يبلغ عدد سكان هذه الدلتا 130 مليونا ويصل ناتجها المحلي الإجمالي إلى تريليونيّ دولار. وإلى الشمال يوجد محور بكين/‏تيانجين/‏بوهاي الذي يغطي عشر مدن رئيسة، ويبلغ عدد سكانه 100 مليون شخص ويسهم بناتج محلي إجمالي قدره 3.1 تريليون دولار. وبالجملة، نجد أن سكان هذه المجموعات الثلاث يمثلون 21 % من سكان الصين، وأن إسهامها في الناتج المحلي الإجمالي للدولة يقل بقليل عن 40 %.
ورغم كونها الأقل من حيث عدد السكان بين المجموعات الثلاث، تعد دلتا نهر اللؤلؤ الأعلى من حيث دخل الفرد، كما أنها تشكل رابطاً مهماً بين الصين وسلاسل التوريد العالمية، إذ تكتسب أفضلية واضحة بفضل مزايا التجارة الحرة، والضرائب المنخفضة، والطابع العالمي الذي يطغى على مدينتي هونج كونج وماكاو، فكل منهما تمثل «إقليماً إدارياً ذا طابع خاص» وفقاً للمبدأ الصيني: «دولة واحدة ونظامان». هناك مدينة أخرى عظيمة الأهمية والقيمة وهي شنجن، تلك «المنطقة الاقتصادية ذات الطابع الخاص» التي تمتاز بتجددها المستمر، والتي تتباهى بامتلاكها سوقاً حيوية لرأس المال، ودأبها على تجريب إيجاد وظائف وفقاً لاحتياجات القطاع الخاص، وتكاملها مع سلاسل التوريد العالمية.
هذه التنافسية التي تحظى بها دلتا نهر اللؤلؤ ليست وليدة الصدفة، فلقد استخدم دنج شياو بنج الإقليم كمختبر للسياسات العامة، إذ سمح بوجود نظم قانونية ومؤسساتية مختلفة في وقت واحد، بينما كانت الصين قد توصلت إلى كيفية للتعاطي مع العولمة. وقد حقق النظام نجاحاً واضحاً، لكنه يعاني من تناقض جوهري يتعلق بمفهوم عالم الاقتصاد رونالد كوس لتكاليف المعاملات.
بفضل ما تحظى به الصين من تدرج جغرافي وسكاني واقتصادي، يسهم «الإصلاح والانفتاح» -بحسب عبارة دنج- وكذلك التقدم التكنولوجي في تقليل تكاليف المعاملات بصورة طبيعية، الأمر الذي يساعد في تحسين قدرة الأسواق على تخصيص الموارد. وتحفز هذه العملية غالباً النزوع للتخصص، في ظل تركيز الاقتصادات الإقليمية أو المحلية على مزاياها التنافسية لتعظيم مكاسبها من انخفاض تكاليف المعاملات.
ويمكن رؤية مثل هذا التخصص بوضوح في دلتا نهر اللؤلؤ. فها هي هونج كونج تتحول إلى مركز رئيس للتمويل والخدمات العالمية، بينما تؤسس ماكاو نفسها كمركز عالمي للقمار والترفيه. في الوقت نفسه، تركز شنجن حالياً على الابتكار التكنولوجي، فيما صارت قوانتشو مركزاً للتجارة العالمية، أما فوشان ودونج قوان فأصبحتا قاعدتين كبريَيْن للتصنيع. ورغم الهيكل الاقتصادي غير المتوازن في ظاهره لكل مدينة على حدة، فإن مجموعة المدن ككل تتمتع بتوازن جيّد وتنافسية عالية.
لكن -وهنا يكمن التناقض- يمكن أن ترفع هذه الأرقام الهائلة من الصفقات مستوى المخاطر المالية والاجتماعية والأمنية، الأمر الذي قد يشعل تقلباً يشمل المنظومة بأكملها، ويسبب عدوى يسري خطرها في كل الأقاليم والقطاعات. ولتقليل هذه المخاطر، يجب على الحكومات والهيئات التنظيمية التدخل، حتى ولو بفرض قيود على الأسواق التي ترفع تكاليف المعاملات بشكل مصطنع. وسيحسن قادة الصين صنعاً إذا تذكروا ذلك وهم يحاولون الاستفادة من نقاط القوة في الأنظمة المتنوعة لبناء اقتصاد أكثر انفتاحاً وحداثة وأسرع نمواً.
لا ريب أن صانعي السياسات في الصين يدركون قيمة مجموعات المدن المتكاملة وأهميتها في دفع حركة التنمية الاقتصادية وتخفيف ضغوط التحضر السريع (الهجرة من الريف إلى الحضر). فقد تجاوزت نسبة سكان الحضر بين الصينيين 50 % في العام 2011، وقد ينتقل 300 مليون شخص آخرين للعيش في المناطق الحضرية خلال السنوات العشرين المقبلة. وفي مثل هذه الظروف، يمكن أن تكون مجموعات المدن المتكاملة شيئاً أساسياً ولازماً للتجديد وإيجاد الوظائف، خاصة في قطاع الخدمات، مع الحد من إهدار الموارد، وتحاشي إحداث المزيد من التدهور البيئي، والتخفيف من حدة الاكتظاظ السكاني في المناطق الحضرية.
لقد تعاونت الصين بالفعل مع سنغافورة ومدن أخرى كبرى للارتقاء بالتصميم الحضري، وتحسين إدارة المياه وتعزيز الاستدامة البيئية، إضافة إلى اتخاذ خطوات للاستفادة من إمكانيات الاقتصاد التشاركي. كما أعلن الرئيس شي جين بينج في أبريل الفائت عن بناء منطقة شيونجان الجديدة التي تقع على بعد 50 ميلاً جنوب بكين، إذ ستُستَخدم كمكان لتجربة السياسات التي تمكن الشركات الناشئة المبتكِرة من الحلول محل الصناعات القديمة المهجورة. فالهدف هنا التشجيع على إيجاد وظائف في الصناعات المستدامة، مع تخفيف الاكتظاظ السكاني الحضري في العاصمة في الوقت نفسه.
أما هونج كونج، فيراها قادة الصين مصدراً لبنية برمجية عظيمة القيمة للتنمية الاقتصادية -بما فيها من سلطة قضائية مستقلة، ونظام صارم وقوي لمكافحة الفساد، وعملة مستقرة، وأسواق عالمية المستوى لرؤوس الأموال. كما يعد نظام التعليم عالي الجودة ذو التوجه الدولي، ونظام إدارة المدينة المتطور والفعال من بين الأصول المهمة التي تمتلكها هونج كونج.
وتتركز أهمية هذه البينة التي تتمتع بها هونج كونج في تكملة مسعى الصين الأكبر الرامي لبناء «الكيان المادي» للتنمية، ممثلاً في مبادرة حزام واحد-طريق واحد، التي تتطلب استثمارات هائلة في البنية الأساسية التي تربط الصين ببقية العالم. ويجري حالياً بالفعل وضع برامج لربط بورصات هونج كونج وشنجهاي وشنجن ولندن لدعم قدرة مجموعات المدن الصينية المتكاملة على الوفاء بمتطلبات مبادرة حزام واحد-طريق واحد من التمويل الخارجي.
لكن يجب فعل المزيد لمساعدة هونج كونج -بل ودلتا نهر اللؤلؤ، على نطاق أكبر لتحقيق الاستفادة القصوى من إمكانياتها. فهناك مثلاً قطاع الخدمات العالميّ المستوى في هونج كونج الذي يعمل حالياً بأقل من طاقته بسبب المعوقات المادية. ولو توافرت بنية أساسية أفضل للانتقال عبر الحدود، وبرامج أكثر مرونة لتقديم الخدمات الطبية والمالية والاجتماعية، لربما اختار المواطنون من كبار السن التقاعد خارج حدود هونج كونج، مما سيُوجِد مساحة للعمال الأصغر سناً.
وفي الوقت الذي يركز فيه كثير من المراقبين على تخمة الائتمان في الصين، تشجع السلطات في هدوء تطوير تكتلات المدن الديناميكية. لكن حماية مثل هذا التقدم والحفاظ عليه يستوجب من صناع السياسات في الصين العمل على تقليل المخاطر المرتبطة بالتحضر السريع والتخصص المتزايد، وإلا ربما انتهت المساعي والاتجاهات التي من شأنها تقديم منفعة عظيمة للصين إلى تقويض الرخاء والاستقرار الاجتماعي.

أندرو شنج: زميل متميّز لدى معهد آسيا العالمي

في جامعة هونج كونج.
شياو قنج: رئيس مؤسسة هونج كونج للتمويل الدولي، وأستاذ في جامعة هونج كونج.