وهم التطبيع

مقالات رأي و تحليلات الأربعاء ١٣/سبتمبر/٢٠١٧ ٠٤:٤٧ ص
وهم التطبيع

أدير تورنر

يميل أغلب الناس سيكولوجيا إلى الاعتقاد بأن الأحداث الاستثنائية تفسح المجال في نهاية المطاف للعودة إلى «الأوقات الطبيعية». والآن يركز العديد من المعلقين الاقتصاديين على احتمالات «الخروج» من ما يقرب من عشر سنوات من السياسة النقدية المفرطة التساهل، مع خفض البنوك المركزية ميزانياتها العمومية إلى مستويات «طبيعية» ورفع أسعار الفائدة تدريجيا. ولكننا نظل بعيدين عن العودة إلى الحالة الطبيعية قبل الأزمة.

بعد سنوات من توقعات النمو العالمية المنخفضة، شهد العام 2017 ارتفاعا كبيرا، والحجة الآن قوية لصالح زيادات طفيفة في أسعار الفائدة. ولكن الاقتصادات المتقدمة لا تزال تواجه تضخما منخفضا للغاية ونموا متواضعا، وسوف يظل التعافي معتمدا على الحافز المالي، ومدعوما بتسييل الديون إذا لزم الأمر.

منذ العام 2007، ارتفع نصيب الفرد في الناتج المحلي الإجمالي في منطقة اليورو بنحو 0.3 % فقط، وفي اليابان بنحو 4.4%، وفي الولايات المتحدة بنحو 5 %. وربما يعكس جزء من التباطؤ عن مستويات النمو السنوي ما قبل الأزمة بنحو 1.5% إلى 2% عوامل جانب العرض؛ وربما يواجه نمو الإنتاجية رياحا معاكسة بنيوية.
بيد أن جزءا من المشكلة يكمن في نقص الطلب الاسمي. فعلى الرغم من جهود التحفيز الضخمة التي تبذلها البنوك المركزية، سجل الناتج المحلي الإجمالي الاسمي في الفترة من 2007 إلى 2016 نموا بنسبة 2.8 % سنويا في الولايات المتحدة، ونحو 1.5% في منطقة اليورو، ونحو 0.2 % فقط في اليابان، مما يجعل من المستحيل تحقيق نمو معتدل فضلا عن تضخم سنوي يقترب من هدف 2 %. الآن كان معدل التضخم في الولايات المتحدة أقل من هدف بنك الاحتياطي الفيدرالي على مدار خمس سنوات، وكان متجها إلى الانخفاض على مدار الأشهر الخمسة الفائتة.
في مواجهة هذا الشذوذ، يبحث بعض الاقتصاديين عن عوامل يقتصر تأثيرها على مرة واحدة، مثل الدقائق «المجانية» للهواتف المحمولة في الولايات المتحدة، والتي تعمل على إضعاف تدابير التضخم في الولايات المتحدة مؤقتا. ولكن تسعير الهواتف المحمولة في الولايات المتحدة من غير الممكن أن يفسر لماذا يظل التضخم الأساسي في اليابان عالقا عند مستوى الصِفر تقريبا. ولابد أن تفسر العوامل الشائعة الطويلة الأمد هذه الظاهرة العالمية.
تُعَد تطورات سوق العمل عاملا أساسيا هنا، مع بقاء نمو الأجور منخفضا بعناد حتى مع انخفاض البطالة إلى مستويات ما قبل الأزمة «الطبيعية». وتعتبر اليابان الحالة الأكثر تطرفا: فمع تقلص قوة العمل، والحد الأدنى من الهجرة، ومعدل بطالة يبلغ 2.8 %، تتوقع كل النماذج القياسية تسارع نمو الأجور. ولكن مهما حث رئيس الوزراء شينزو آبي أصحاب العمل على إعطاء علاوة للعمال اليابانيين، يظل نمو التعويضات بطيئا: ففي يونيو ، ارتفع إجمالي الأجور بنحو 0.4 % فقط. وفي الولايات المتحدة أيضا، تشير كل دفعة جديدة من البيانات الشهرية إلى نمو قوي في تشغيل العمالة ونمو منخفض بشكل مدهش للأجور.
وربما تفسر ثلاثة عوامل هذا الاتجاه. فعلى مدار ثلاثين عاما، أصبحت أسواق العمل أكثر مرونة، مع ضعف قوة النقابات بشكل كبير. وفي الوقت نفسه، تسببت العولمة في تعريض العمال في القطاع القابل للتداول للمنافسة العالمية على الأجور. ولكن الأمر الأكثر أهمية هو أن تكنولوجيا المعلومات توفر فرصا متزايدة التوسع لأتمتة كل الأنشطة الاقتصادية. وفي سوق عمل تتسم بالمرونة الكاملة، مع جيش احتياطي من الروبوتات، كما كانت الحال بالفعل، من الممكن أن تؤدي إمكانية انتشار الأتمتة إلى كساد نمو الأجور الحقيقية حتى في ظل التشغيل الكامل للعمالة.
من ناحية أخرى، لا يزال الطلب الاسمي معوقا بفعل عبء الديون غير المحسومة. في الفترة بين العام 1950 والعام 2007، ارتفعت الديون الخاصة في الاقتصادات المتقدمة من 50 % إلى 170 % من الناتج المحلي الإجمالي. ومنذ العام 2008، تحول الدين من القطاع الخاص إلى القطاع العام، في ظل عجز مالي ضخم كنتيجة حتمية للركود بعد الأزمة وضرورة أساسية للحفاظ على القدر الكافي من الطلب. بالإضافة إلى ذلك، ظل الاقتصاد العالمي مستمرا بفِعل الزيادة الهائلة في مستويات الاستدانة في الصين، مع ارتفاع نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي من نحو 140 % في العام 208 إلى 250 % اليوم. وفي مختلف أنحاء العالَم، بلغ إجمالي الديون العامة والخاصة مستويات غير مسبوقة من الارتفاع، من 180 % من الناتج المحلي الإجمالي العالمي في عام 2007 إلى 220 % من الناتج المحلي الإجمالي في مارس 2017. ونتيجة لهذا، لم يعد من الممكن أن تعود أسعار الفائدة إلى مستويات ما قبل الأزمة دون المخاطرة بتجدد الركود.
في مواجهة أعباء الديون هذه، كان من المحتم أن تعجز السياسة النقدية المتساهلة وحدها عن إحداث أثر فعّال، وأن تصبح بعد تجاوز نقطة ما ضارة وهدّامة. ولا يستجيب الاستثمار ولا الاستهلاك بقوة لأسعار فائدة متزايد الانخفاض، عندما تكون أعباء الديون مرتفعة. ومن ناحية أخرى، تعمل أسعار الفائدة الشديدة الانخفاض على توليد زيادات في أسعار الأصول، والتي يستفيد منها الأثرياء بالفعل وتعمل على خفض دخل المودعين الأقل ثراءً في البنوك، والذين يضطرون في ظل بعض الظروف إلى خفض الاستهلاك بما يتجاوز زيادة الاستهلاك من قِبَل المقترضين المثقلين بالديون.
في هذا السياق، كما زعم الخبير الاقتصادي كرسيتوفر سيمز من جامعة برينستون في العام 2016، تعجز السياسة النقدية المتساهلة عن العمل عبر قنوات النقل العادية، ولا تصبح فعّالة إلا إذا نجحت في تسهيل التوسع المالي من خلال الإبقاء على تكاليف الاقتراض الحكومي منخفضة. كان نمو الناتج المحلي الإجمالي الاسمي في الولايات المتحدة أسرع من نظيره في منطقة اليورو منذ عام 2007، لأن الولايات المتحدة كانت تدير عجزا بلغ في المتوسط 7.2 % من الناتج المحلي الإجمالي في مقابل 3.5 % في منطقة اليورو. ويعتمد النمو العالمي اليوم بشكل حاسم على العجز المالي في الصين الذي بلغ 3.7 % من الناتج المحلي الإجمالي، ارتفاعا من 0.9 % في العام 2014. ولا يمكن ضمان استمرار النمو في اليابان إلا بفضل عجز مالي ضخم يمتد إلى عشرينيات القرن الحادي والعشرين: ومن الواضح أن بنك اليابان، الذي يحتفظ الآن بسندات حكومية تعادل 75 % من الناتج المحلي الإجمالي، سوف يحتفظ ببعضها إلى الأبد، ويعمل بشكل دائم على تسييل الديون المالية المتراكمة.
وبالتالي، فإن التعافي الجزئي هذا العام لا يعكس العودة إلى الحالة الطبيعية قبل الأزمة ولا يعكس نجاح السياسة النقدية وحدها. ولكن حتى إذا ظلت معدلات التضخم أقل من المستهدف، فسوف تظل هناك حجة قوية لصالح بعض الزيادات في أسعار الفائدة. ولأن السياسة النقدية المتزايدة التساهل منفردة تُصبِح متضائلة الفعالية على نحو متزايد بعد تجاوز نقطة ما، فيمكن عكسها جزئيا مع خطر طفيف يهدد الطلب الاسمي؛ وسوف تعمل أسعار الفائدة الأعلى قليلا على تخفيف التأثير غير المتساوي المترتب على مزيج السياسات الحالي، ولو بدرجة طفيفة.
ولكن زيادات أسعار الفائدة سوف تكون، وينبغي أن تكون، صغيرة للغاية. وأشك أن سعر الفائدة على الأموال الفيدرالية الأميركية قد يتجاوز 2.5 % في العام 2020، في حين لن ترتفع أسعار الفائدة في اليابان ومنطقة اليورو إلا بشكل هامشي، وربما تظل عند مستوى أقل من 1 %. أما التضخم فسوف يكون في الأرجح أقل وليس أكثر من الهدف 2 %. وفي الأفضل الأحوال، لن يكون النمو المعتدل كافيا للتعويض عن أثر العقد الضائع من 2007 إلى 2017.
سوف يظل الانحياز السيكولوجي إلى توقع العودة إلى «الوضع الطبيعي» قويا. بيد أن العوامل الدافعة وراء الأداء الاقتصادي في مرحلة ما بعد الأزمة عميقة إلى الحد الذي يجعل العودة إلى الوضع الطبيعي أمرا غير مرجح في أي وقت قريب.

رئيس معهد الفكر الاقتصادي الجديد، والرئيس

المشارك للجنة انتقالات الطاقة.