مأساة سياسية أمريكية

مقالات رأي و تحليلات الثلاثاء ١٩/سبتمبر/٢٠١٧ ٠٤:٢٩ ص

هلموت ك. أنهير

اتسمت الأشهر الثمانية التي قضاها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في منصبه بسلسلة من التطورات السياسية المزعجة. ولكن اللوم لا يقع على عاتق ترامب وحده. إن رئاسته ليست سوى آخر مرحلة في مأساة سياسية طويلة الأمد.

ومن منظور السياسة الخارجية، بدأت المشكلة في التسعينيات، عندما أهدرت الولايات المتحدة فوائد السلام بعد الحرب الباردة. وفيما يتعلق بالسياسة الداخلية، فقد بدأت الأزمات في وقت سابق: من ريغانوميكس في الثمانينيات إلى أوباماكير في 2010، كانت السياسات الرائدة غالبا زائفة ومخيبة للآمال، كما فشلت في معالجة المشاكل الأساسية.

وبطبيعة الحال، فإن السياسيين الأمريكيين نادرا ما يخفقون في إيجاد الشعارات الرنانة في حملاتهم الانتخابية- من «الصباح في أمريكا» لرونالد ريغان إلى شعار «نعم، نستطيع» لباراك أوباما، إلى شعار دونالد ترامب «أمريكا أولا». وبداية من جون ف. كينيدي، شبه الرؤساء الولايات المتحدة «بمدينة على هضبة» - كقُدوة للعالم كله.
ومع ذلك فمن الصعب أن نتذكر آخر مرة اعتمدت فيها الولايات المتحدة سياسة كانت بمثابة نموذج يقتدي به الآخرون. ولم يكن للبلاد حكومة استباقية تطلعية منذ الستينيات. ومنذ التسعينيات، لم تستثمر بما فيه الكفاية في رأس المال البشري لتلبية متطلبات التغير السريع في المهارات الاقتصادية؛ لم تنفذ أي إصلاحات فعالة في مجال التعليم أو البيئة أو سوق العمل؛ ولم تطلق أي مبادرات حضرية جديدة أو سياسات للبنية الأساسية في المستقبل. والقائمة طويلة.
والسبب بسيط: إن شكوك الأمريكيين منذ فترة طويلة في «الحكومة الكبيرة» تحولت إلى نوع من الكراهية السياسية الذاتية، مع اعتقاد صانعي السياسات والمواطنين على حد سواء بأن الحكومة في أفضل حالاتها لا تحكم. ومع تراجع حكومة الولايات المتحدة عن المجتمع، تراجعت الولايات المتحدة عن بقية العالم.
وقد تُوجت هذه الاتجاهات بفوز ترامب، الذي تركز سياساته الشعبوية على التدمير، بدلا من الإبداع. ومن المفترض أن يؤدي إلغاء الضوابط التنظيمية إلى القضاء على وهم «الدولة العميقة»، مع تمكين الولايات المتحدة من تحقيق الاستقلال الطاقي. ولم تركز السياسة الخارجية داخل الولايات المتحدة على إعادة تشكيل دور أمريكا في العالم، بل على إضعافه. من قانون الرعاية الصحية بأسعار معقولة (أوباماكير) إلى برنامج العمل المؤجل الخاص بوصول الأطفال إلى أمريكا (داكا)، فالحقيقة أن ترامب يحب إبطال السياسات الفائتة، من دون ابتكار أي شيء يحل محلها.
وقد فشل المحافظون الأمريكيون حتى الآن في قراءة نوايا ترامب بدقة. في يوليو، كتب روبرت ميري أن ترامب «لم يقم بأي إنجاز تشريعي جدير - أو يُظهر أي زخم سياسي جدي». ولكن الحقيقة هي أن برنامج ترامب يتمتع بقوة كبيرة؛ فهو يركز فقط على هدم إرث أوباما.
وكما قال خبير القانون الدولي ريتشارد فالك، إن «غوغائية» ترامب هي التي تجعل هذا النهج ممكنا، لأنه «يلهي أتباعه عن مصالحهم الذاتية المادية الحقيقية ويخطئ التعرف على أعدائه الاجتماعيين الحقيقيين». إن رفض ترامب «للخطاب المنطقي، بما في ذلك الالتزامات بالحقيقة والأدلة «تُزاوجه» قدرة غير محدودة «على التلاعب بالرأي العام وبالمشاعر مستعملا العنصرية والحسد الطبقي».
وكنتيجة لنهج ترامب، فاٍن المشاكل الحالية في أمريكا تزداد سوءا وهناك فرص هائلة تم تفويتها. ولكن ما الذي يمكن أن يوقف الشياطين المنتشرة؟ وحتى لو توقفت، هل يمكن رفع الضرر الذي خلقته بالفعل؟
كان هناك رد فعل عنيف ضد ترامب عندما لم يعبر بصراحة عن إدانته للمتظاهرين المتمردين البيض في شارلوتسفيل بولاية فيرجينيا التي انتهى تجمعها «وحدوا اليمين» في أغسطس بقتل متظاهر معارض. لكنه لم يفعل الكثير لإضعاف قوة ترامب المدمرة: بعد بضعة أسابيع فقط، أعلن ترامب خطته لإنهاء داكا، وهي سياسة تمنع ترحيل 800.000 مهاجر شاب تم جلبهم إلى الولايات المتحدة عندما كانوا أطفالا.
وبعيدا عن الشعور بالأسف تجاه الأزمة الخطيرة التي يمكن أن تسقط فيها ثقافة ونظام سياسيان كبيران، السؤال هو ما العمل؟ هناك خيار واضح، الذي سيتخذه الديمقراطيون دون شك، وهو رفض ترامب وكل ما تقوم به إدارته. ولكن هذا ينطوي على ضمان استمرار الدينامية المختلة التي تسببت للولايات المتحدة في هذا الوضع.
وثمة خيار آخر، رغم أنه لا يبدو مثيرًا، هو القبول بواقع إدارة ترامب. وقد يؤدي مثل هذا الاختيار إلى تفاقم المشاكل الداخلية وضعف الضوابط والتوازنات. ولكن من الممكن أيضا أن تستمر الضوابط والتوازنات حتى الانتخابات المقبلة، مما سيُتيح إعادة بناء الأحزاب السياسية القائمة في أمريكا وظهور أحزاب جديدة. والنتيجة، كما نأمل، ستكون إعادة تنظيم المشهد السياسي الضرورية للغاية، وتحقيق نهضة سياسية حقيقية.
ومن المؤكد أن مثل هذا التحول سيستغرق وقتًا طويلًا، وهذا يتوقف على المدة التي سيظل فيها ترامب في منصبه، عكس الأحزاب. لقد كان الجمهوريون عاجزين سياسيا لسنوات، حيث أجبروا على التنازل عن مبادئهم من أجل مصالحهم السياسية (ٍصفقة الدكتور فاوست). ويواجه الديمقراطيون، من جانبهم، فراغا واسعا على مستوى الزعامة وغيابا للرؤية السياسية، بسبب خوفهم الداخلي من وصفهم «بالمُسرفين الكبار». وكما هو الحال، لا توجد أطراف بديلة أو مرشحون يقدمون بدائل معقولة.
ومع ذلك، هناك علامات مشجعة على أن بعض الجمهوريين والديمقراطيين يفكرون بحرية دون أي قيود. وعلى الآخرين أن يحذوا حذوهم، مع الاعتراف بأن إعادة تنظيم نظام الحزب القائم قد يكون السبيل الوحيد لكسر الجمود في السياسة الأمريكية، وربما عكس عقود من ضعف الأداء الديمقراطي الخطير.
أما العمل المقبل في الدراما السياسية الأمريكية، بعد انتخابات منتصف المدة في الكونغرس لعام 2018، فيمكن أن يتسم بنوع من التقدير، مع الحملة الرئاسية لعام 2020 المصحوبة بالانهيار المدني وتصعيد المواجهة العنيفة التي ظلت خفية لسنوات. ولإعادة حبك الرواية قبل إنهاء السيناريو يجب تعديل وإحياء السياسة الأمريكية، حتى تعود «قصيدة الأمل والتاريخ» مرة أخرى في أمريكا، على حد تعبير الشاعر الإرلندي سيموس هيني.

رئيس وأستاذ علم الاجتماع في كلية هرتي للحكم في برلين.