الأذرع الروسية

مقالات رأي و تحليلات الأربعاء ٢٠/سبتمبر/٢٠١٧ ٠٤:٢٧ ص
الأذرع الروسية

سوافيمير سييراكافسكي

في حين يظل العديد من الأمريكيين مذهولين إزاء التحقيقات الجارية حول التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية الأميركية العام 2016، يكتشف البولنديون أن بلادهم ربما خدمت كحقل تجارب لجهود روسية. فقد سعت روسيا لفترة طويلة إلى زرع ساسة موالين للكرملين في أعلى مستويات السلطة في أوروبا الوسطى والشرقية. والآن هناك أدلة تشير إلى أن هيئات استخباراتية عسكرية روسية تمارس نفوذا ملموسا على وزارة الدفاع البولندية.

في العام 2014، عندما كانت بولندا تحت حكم حزب المنبر المدني، كانت الدولة الوحيدة في أوروبا التي نجحت في درء الركود في أعقاب الأزمة المالية العام 2008. خلال السنوات الثماني التي قضتها حكومة حزب المنبر المدني في السلطة، سجل الناتج المحلي الإجمالي في بولندا نموا بلغ نحو 25 %، في حين انخفضت البطالة وعجز الميزانية بنحو النصف. وعلى الرغم من هذا الأداء القوي، أوقع حزب ياروسلاف كاتشينسكي القانون والعدالة هزيمة مدوية بحزب المنبر المدني في انتخابات 2015 البرلمانية في بولندا.ولكي نفهم السبب، يتعين علينا أن نعود إلى العام 2013، عندما استأجر رجل الإعمال البولندي الغامض ماريك فالينتا نادلين لتسجيل محادثات خاصة في مطعم يتردد عليه الساسة عادة. وقد أثارت هذه التسجيلات السرية فضيحة أجبرت كل قيادات حزب المنبر المدني تقريبا على الخروج من الحكومة. وكان بين المستقيلين رئيس مجلس النواب راديك سيكورسكي، الذي شارك في إعداد مبادرة الاتحاد الأوروبي المصممة لتعزيز قدرة بعض بلدان أوروبا الشرقية وأوراسيا على الصمود في مواجهة الضغوط الروسية.

وكان الساسة من حزب القانون والعدالة أيضا يترددون على أماكن تُسَجَّل فيها محادثاتهم، ومع ذلك لم تُسَرَّب أي من محادثاتهم. وقد تبين أن فالينتا مدين بمبلغ 26 مليون دولار أميركي لشركة كوزباسكايا توبليفنايا كومبانيا الروسية، التي كانت على علاقة وثيقة بالرئيس الروسي فلاديمير بوتن. ورغم إدانته في نهاية المطاف لتورطه في مؤامرة التنصت، فلم يتم تحديد هوية أي شخص آخر من المتورطين في التخطيط للتسريبات. وفي الوقت نفسه، تسببت فضائح مماثلة في إبعاد سياسيين ليبراليين عن السلطة في المجر وسلوفاكيا، الدولتين اللتين تسيطر عليهما الآن الحكومتان الأشد موالاة لروسيا في الاتحاد الأوروبي.
عندما تولى حزب القانون والعدالة السلطة في العام 2015، سلكت السياسة الخارجية والدفاعية في بولندا منعطفا غريبا، بدءا بتعيين أنتوني ماسيرويتز وزيرا للدفاع. الواقع أن ماسيرويتز ــ السياسي الوحيد في حزب القانون والعدالة الذي يتصرف بشكل مستقل عن كاتشينسكي، وفي بعض الأحيان في تحد واضح ــ كان أيضا الرجل وراء التطهير الأخرق في بولندا العام 1992، وهي عملية الفرز السياسية التي أخرت جهود تفكيك الشيوعية في البلاد. ولا يزال كثيرون يتذكرون قائمة ماسيرويتز» سيئة السمعة من تلك الفترة، والتي شوهت سمعة أناس أبرياء بوصفهم متعاونين مع الشرطة السرية في عهد الشيوعية. وفي ظل حكومة لاحقة، نشر ماسيرويتز تقريرا عن هيئة مكافحة الجاسوسية في بولندا، أو دائرة المعلومات العسكرية، والذي كشف الغطاء عن عملاء استخبارات بولنديين وأدى إلى حل الهيئة.
خلال فترة وجوده في السلطة، أشعل حزب القانون والعدالة نزاعات مع أكثر حلفاء بولندا أهمية في أوروبا: ألمانيا وفرنسا والمفوضية الأوروبية. ففي نوفمبر 2015، أمر الحزب بشن غارة على مركز مكافحة التجسس التابع لمنظمة حلف شمال الأطلسي والذي أنشئ لرصد وتتبع جهود الاستخبارات الروسية. وآنذاك، ألغت وزارة الدفاع بقيادة ماسيرويتز على نحو غير متوقع عقدا مع فرنسا لشراء 50 طائرة هليكوبتر من طراز كاراكال، الأمر الذي جعل بولندا تفتقر إلى قدرة عسكرية بالغة الأهمية حتى يومنا هذا. وفي وقت فائت من هذا العام، فَصَل ماسيرويتز 90 % من أعضاء هيئة الأركان العامة في المؤسسة العسكرية ونحو 82 % من القيادة العامة، وعمل على تشكيل قوة عسكرية جديدة تتألف قيادتها من نشطاء مؤيدين للكرملين ومنتقدين لحلف شمال الأطلسي. مؤخرا، كشف الصحافيان البولنديان توماش بياتيك من صحيفة جازيتا ويبورسزا، ورادوسلاف جروكا من صحيفة فاكت، جنبا إلى جنب مع منظمة «المدينة لنا»، عن ارتباطات مريبة ومشبوهة من ماضي ماسيرويتز. على سبيل المثال، كان روبرت لوسنيا أحد أقرب رفاق ماسيرويتز في دوائر الأعمال وعالَم السياسة بعد العام 1989، وفي وقت لاحق تبين أن لوسنيا عمل مخبرا خلال الفترة الشيوعية وبعدها، وكان مديروه في الأرجح عملاء لمديرية المخابرات الرئيسية الروسية التي تعمل في بولندا.
كما وَصَف بياتيك «اتصالات عديدة طويلة الأمد بين ماسيرويتز ورجل العصابات والممول الروسي سيميون موجيليفيتش ومديرية المخابرات الرئيسية». ووفقا لصحافي التحقيقات روبرت فريدمان، كان موجيليفيتش «رجل العصابات الأشد خطورة في العالَم»، ومن المعروف على نطاق واسع أنه يعمل بشكل وثيق مع مديرية المخابرات الرئيسية.
والحليف الأقرب لماسيرويتز في الولايات المتحدة هو عضو مجلس الشيوخ ألفونس داماتو، الذي دعم ترمب خلال حملة 2016. وقد عمل إدموند جانيجر مساعد داماتو مستشارا لماسيرويتز حتى العام 2015. وذكرت الصحافة الأميركية أن داماتو وموجيليفيتش لهما علاقات سابقة مع بنك نيويورك ميلون، الذي قدم القروض لحملة داماتو لعضوية مجلس الشيوخ في أوائل ثمانينيات القرن العشرين، وزعم بعض المراقبين أنه كان يغسل الأموال لصالح جماعات الجريمة المنظمة الروسية في التسعينيات.
اليوم، تمارس شركة بارك ستراتيجيز التي يملكها داماتو الضغوط في الكرملين لصالح شركتي صناعة الأسلحة الأميركيتين ايروجيت روكيتداين ويونايتيد تكنولوجيز، كما قدمت مؤخرا خدمات لوزارة الدفاع البولندية في عهد ماسيرويتز. والواقع أن ماسيرويتز استأجر بارك ستراتيجيز للمساعدة في قمة حلف شمال الأطلسي في وارسو العام 2016 ــ وهو حدث كبير يشارك فيه صناع الأسلحة. وقبل أن يلغي ماسيرويتز عقد الأسلحة مع فرنسا، التقى داماتو، الذي يمارس الضغوط أيضا لصالح شركة صناعة الأسلحة الأميركية لوكهيد مارتن. وبعد ذلك، بدأ ماسيرويتز يدعو إلى شراء طائرات بلاك هوك التي تصنعها شركة لوكهيد.
في الرد على هذه التصريحات العديدة، قرر ماسيرويتز عدم رفع دعوى مدنية ضد بياتيك، الأمر الذي كان ليتطلب منه أن يثبت عدم صحة ما كشف عنه الصحافي من أسرار. ولكنه بدلا من ذلك دعا إلى محاكمة بياتيك جنائيا بتهمة تهديد مسؤول حكومي.
بيد أن ماسيرويتز ليس المسؤول الوحيد في حزب القانون والعدالة الذي ينضوي تحت جناح روسيا. فقد نشرت صحيفة الجارديان مؤخرا تقريرا مفاده أن «بارتوش كوناكي، الملازم الرئيسي لوزير الدفاع أنتوني ماسيرويتز، كان عضوا في مجموعة من المراقبين الدوليين البولنديين أثناء انتخابات روسيا في العام 2012». وكان برفقة كوناكي في تلك الرحلة، وفقا للتقرير، «ماتوش بيسكورسكي مؤَسِّس مركز البحوث البولندي «المركز الأوروبي للتحليل الجيوسياسي»، وهو قيد الاحتجاز الآن في بولندا بتهمة التجسس لصالح موسكو».
من مصلحة بوتن أن يزرع بذور الخلاف في الغرب، وخاصة داخل الاتحاد الأوروبي، ولا أحد يعزز هدفه المتمثل في تفكيك الاتحاد الأوروبي بشكل أكثر فعالية من الحكومة البولندية الحالية. ونظرا لاقتصادها القوي، تستطيع بولندا أن تعمل كحليف قوي لفرنسا وألمانيا في أوروبا بعد خروج بريطانيا لتعميق التكامل. ولكن فرنسا وألمانيا لا يمكنهما الاعتماد على بولندا ما دام كاتشينسكي وماسيرويتز في السلطة ينثران بذور الخلاف في الاتحاد الأوروبي ويعملان على نحو لا يستفيد منه أحد سوى روسيا.

مدير معهد الدراسات المتقدمة في وارسو