أعظُك بما رأيت؟ أم بما سمعت؟!

مقالات رأي و تحليلات الخميس ٢١/سبتمبر/٢٠١٧ ٠٥:٠٣ ص
أعظُك بما رأيت؟ 

أم بما سمعت؟!

جمال زويد

لا أدري بالضبط سبب إطلاق تسمية (العالم الافتراضي) على وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة، مع ما تنتجه من كمّ مهول من الرسائل والتعليقات والتغريدات التي هي أشبه ببحر متلاطم الأمواج، أصبح هديرها هو الشغل الشاغل في عالم اليوم، لا تختلف أهميتها سواء عند الساسة أو الزعماء أو الأفراد.

الجميع أصبح منكبًّا في أجزاء ليست قليلة من ساعات يومه الأربع والعشرين على ما تصدره (ماكينة) هذا العالم الذي يسمونه بـ(الافتراضي)! ليس هذا فحسب، بل أصبحت مخرجات هذا العالم محرّكًا وموجهًا لإنجازات وخطط واستراتيجيات أفراد ومؤسسات وجماعات ودول بصورة لا يستطيع معها أحد أن ينكر قوة تأثيراتها وسطوتها في تشكيل الرأي العام، حتى أصبحت له -العالم الافتراضي- الهيمنة الكبرى على ما نتلقاه من معلومات وبيانات وأخبار وتقارير، نكوِّن بناء عليها أفكارنا وقناعاتنا وتوجهاتنا.

على أن هذا التدفق الغزير جدًا الذي يملأ الفضاء المعلوماتي -بصورة مذهلة- الزمان والمكان صارت السمة البارزة فيه هو الانفلات، الانفلات من معايير تدقيق المعلومات والتأكد من مصادرها والتجرد في عرضها والنزاهة في نقلها وما شابهها من قيَم المصداقية والصحة التي -ربما- شحّت في هذا العالم الافتراضي، وحلّت محلها ظواهر معيبة في الكذب والتدليس والفبركة وإطلاق الشائعات و... إلى آخره، مما لا يتفق مع اشتراطات النقل والرواية بحيث تحوّلت وسائل التواصل الاجتماعي تلك إلى ما يشبه المرتع الخصب للاستخدام السيئ للتقنيات الحديثة، والتعدّي على الدول والمؤسسات والأشخاص وحتى الأعراض. وتطوّر الاهتمام أو السطوة الكبيرة لهذه الوسائل ليكون استغلالها على شبكات تطبيل وتزمير أو عمل مخابراتي أو فرص ارتزاق وانتفاع وابتزاز، أو تحريض وتصفية حسابات أو شماتة أو وقيعة أو تشويه وما شابه ذلك من استعمالات غير خافية، وباتت مقيتة في حياة الأفراد والمجتمعات، حولت أدوات التواصل الإلكتروني -للأسف الشديد- إلى أسلحة بارزة في حروب ونزاعات وتعدّيات.
ومع هذا الانفلات الكبير، فإنه لا يبدو أن أحدًا -إلا القليلين- قد بات في وارد اهتمامه إعادة النظر في قيم الموضوعية والمصداقية والحياد واشتراطات النقل الأمين والرواية الحصيفة وما شابهها من أنماط كانت هي الأصل في ما يُقال ويُروى من أخبار وأحداث وتقارير. إلا أنها تلاشت وربما حلّت مكانها -للأسف الشديد- عبارات مثل (منقول) أو (كما وصلني) دون بذل أي جهد في التمحيص والبحث عن مصدر صحيح.
لست في مقام التوجيه، لكن من الضرورة التفكير في إعادة الاعتبار لتلك القيم والمعايير التي جرى تغييبها بشكل واسع في هذا العالم الافتراضي. ولنا في السابقين من رجالات الأمة وفي تاريخها ما يمكن أن نستقي منه بعضًا من تلك المفاهيم ونكتشف أهميتها، رغم أن تطوّر التقنيات وسهولة الحصول على المعلومات إنما هي أدوات تساعد على الدقة وحماية أنماط النقل والمصادر وليس العكس.
ومما يُروى في هذا الصدد أن أحد العلماء الأفذاذ، وهو مُقاتل بن سليمان -رحمه الله- دخل على الخليفة المنصور يوم بُويعَ بالخلافة. فقال له الخليفة المنصور: «عِظني يا «مُقاتل»! فقال:أعظُك بما رأيت؟ أم بما سمعت؟! قال: بما رأيت. وذلك في دلالة واضحة على أهمية النقل الأمين غير المعتمد على مجرّد سمعت من فلان أو علاّن، وإنما شاهدتها وعاصرتها بأمِّ عيني.
لست في الواقع في مقام إكمال عرض ما رآه مُقاتل بن سليمان، وإنما يكفيني أن مجتمعاتنا اليوم بات فيها الاعتماد على السمع أكثر من النظر والمعاينة، وأن ما نسمعه صار ينتشر كما الرماد في الهشيم بغض النظر عن صحته وسلامته، ما أجدرنا أن نتحدّث وننقل ونكتب بما رأينا لا بما سمعنا.

سانحة:

يُقال عن الإشاعة: «يؤلفها الحاقد، وينشرها الأحمق، ويصدِّقها الغبي».

كاتب بحريني