الحب في الزمن الجميل

مقالات رأي و تحليلات الأحد ٢٤/سبتمبر/٢٠١٧ ٠٤:٢٠ ص
الحب في الزمن الجميل

أحمد المرشد

بداية، اعتذر لكل الذين طلبوا مني الكتابة مجددًا في قضية انفصال الأكراد؛ وهذا لأني أرى أنّ ما سردته الأسبوع الفائت عن ضرورة بقاء العراق كيانًا موحدًا يكفي ولا داعي لفتح القضية مرة أخرى.. أعلم أنّ رغبة بعض القيادات الكردية في إعلان الانفصال ما تزال محل رضا شعبي في أوساط الأكراد، بيد أن المسألة كلها ترتبط بالدولة العراقية المركزية، تلك الدولة التي عهدناها منذ طفولتنا ونتمنى استمرارها.

وإذا كنتُ تحدثتُ بحنين الأسبوع الفائت عن الماضي العربي الذي يرتبط بعالم الجغرافيا والسياسة، فالحب أيضًا له ماضٍ وزمن جميل عشناه وتعايشنا معه ونهلنا من عواطفه وأشجانه وحنانه، وله كتبنا شعرًا وقصائد وزجلًا، كان الحب للحب، وليس تضييعًا للوقت، كان الحب جميلًا في الماضي، حب يقوم على الثقة والإخلاص لا يرتبط بالماديات، كان «عش الزوجية» يبدأ من لا شيء تقريبًا، ويمتلئ على مدى سنوات، لا يمتلئ أجهزة مادية، وإنما عواطف وحب وشوق ولهفة وأطفال، ولذلك استمر آباؤنا وأمهاتنا في حب وتفاهم إلى أرذل العمر.

لا أريد النيل من عصرنا الحالي، فهو أيضًا عصر الحب، ولكنه ليس حبًا مثلما كان في ماضينا، لأن كلمة «الحب» أو «بحبك» أصبحت رخيصة وتُقال في أي وقت، ولمرات عديدة في اليوم الواحد عبر وسائل السوشيال ميديا، فالكلمة يقولها الشاب أو الفتاة صباحًا وظهرًا ومساء، وربما ينقلب الوضع في اليوم التالي، ليكون بداية نكد وعصبية، لينتهي اللقاء بدون حتى كلمة وداع على أمل اللقاء. ربما يكون السبب أن السوشيال ميديا قرّبت المسافات بين المحبين وأزالت كل التضاريس المعنوية والمادية التي كانت قائمة زمان. ونتذكر أغنية «ساكن في حي السيدة» للمطرب المصري صاحب الصوت الرائع محمد عبد المطلب، فهو يذهب من السيدة لسيدنا الحسين يوميًا مرتين ليرى وجه حبيبته، الرجل حكى عن مشقته اليومية، ومع ذلك لم يستطع أن يبوح لها بحبه وأن يبثها عواطفه، فالنظرة كانت كل أمله وغايته.
لم نعهد مثل عبد المطلب في عصرنا الحالي، فلربما كان وقع في غرام أكثر من فتاة في وقت واحد وراسلها على «الواتس» أو «الفيس بوك»، وغيرها من وسائل التواصل، ولكل أمثال عبد المطلب أن يحمدُ الله أنهم لم يعهدوا هذا العصر، عصر المصالح والماديات والحياة الإلكترونية والرتم السريع للحياة، هذا الرتم الذي جعل الحب يأتي سريعًا وينتهي أسرع، إلا فيما ندر.
لقد عهدنا في زماننا الجميل كيف ينفجر الحب وينابيعه، لتظل تلك الينابيع تسقي الحب بأعذب الكلمات والعواطف، فكانت مياه الحب لا تنقطع أبدًا وتظل تروي ما بين الحبيبين من هيام ولهفة وغرام، ليظل الحب والتفاهم إلى ما شاء الله، ثم تمضي الأيام ليكون هذا الحب هو الطريق للزواج إن شاءت الظروف، ليأتي الأطفال ويكبرون وسط حديقة غنّاء من الحب والمودة والتفاهم بين أعضاء الأسرة، ولم نلحظ ما نراه الآن من شحوب مشاعر العشق وتراجعها بسبب روتين الحياة، فالروتين الذي نحياه اليوم لم يختلف بالأمس، فروتين الحياة واحد مهما اختلفت العصور والأيام. ولكن في الزمن الجميل كان المحبون يتغلبون على أوجاعهم الحياتية، ولم نكن نسمع كلمات مثل «الحب الذي بيننا انتهى» لأن الحب لا ينتهي ويظل رافدًا للعواطف بين المحبين وكل أعضاء الأسرة، رغم كل مشاكل الحياة اليومية آنذاك، وطبيعي أن يمر الجميع بمشاكل ولكن ليس معنى هذا إغفال حق الحب على الجميع. كان حديث المحبين تلفه المشاعر والذكريات الجميلة والرومانسية وضوء الشموع، بما يذهب الفتور والملل والشعور بالحياة المملة.
في زمن الحب الجميل، كان العشق صافيًا للقلوب، ومن أجله يضحي الجميع بالغالي والنفيس لكي يظفر بقلب نقي عاشق مخلص لصاحبه، وليس قلبًا مجنونًا يمر بكل ألوان الطيف في الساعة الواحدة وليس اليوم الواحد، وربما في الدقيقة الواحدة تتغيّر مشاعره من حب إلى غضب إلى غيرة إلى كره إلى هجران إلى نسيان.. الحب في الزمن الجميل كان شعاره «تقديس المحب»، وهذا المحب أو الآخر إنسان واحد فقط لا غير وليس بعدد خطوط وأرقام الهواتف النقالة. الحب في الزمن الجميل يختار المرء إنسانة واحدة من بين عشرات أو مئات الأخريات، وهي كذلك تختار فارسها من بين المئات، ويظل هو الحبيب والرفيق، وليس مجرد رقم أو اسم وهمي في قائمة الاتصالات على الهاتف المحمول من بين أسماء وهمية أخرى. الحب في الزمن الجميل ظل يرتوي يوميًا وليس مجرد يوم واحد في العام تحت عنوان «عيد الحب» أو «الفالانتين داي»، كانت الورود والزهور عنوانًا دائمًا للحب، وليس مجرد هدية عطر غالٍ أو رخيص مرة كل فترة. كانت العيون هي لغة الحب في الزمن الجميل، ومن قبل ذكرت محمد عبد المطلب ومشقته ليرى حبيبته، فالعيون هي لغة التواصل بين الأحبة، وليس «الشات» وصورة سريعة ليس بها روح. في زمن الحب الجميل، انتظرت الفتاة حبيبها وفارسها بهيئته وليس بما يمتلكه من ثروة وسلطة وجاه، وفي المقابل أيضًا لم يكن للرجل أكثر من فتاة أو حبيبة، فمن تسكن القلب تظل به إلى آخر العمر.
الحب في الزمن الجميل كان الشاب يفصح فيه عن مدى احتياجه لقلب حبيبته، حتى يشعر معها بالأمان وهي كذلك، أمان اليوم وغدًا، فشمس الحب زمان كانت تولّد دفئًا ونورًا يبدد ظلام الحياة وبرودتها. كان الشاب أو الفتاة يكتب أو تكتب عن كونها الرحب الذي زرعته وردًا وأزهارًا للآخر، كان كل طرف يمثل للآخر أشعة الشمس ونور القمر والطبيب والدواء، كان مجرد الحديث بين الحبيبين أو حتى الرؤية كافيًا لتبديد الخوف، وعندما كان يتعهد الحبيب بقطع البحار والمسافات والجبال لم يكن يهذي وإنما يتحدث بقوة لأنه قادر على فعل هذا وذاك. كان الحب في الزمن الجميل حصنًا من الأمان، حصنًا يملؤه الحب والود والمشاعر الفياضة، حصنًا به أحلى باقات الزهور والورود والفرحة بلا حدود، حصنًا يضم طائرين معًا في حالة هيام دائم، لا تكفي كل السموات لطيرانهما معًا متعانقين وهما ذاهبان لنجمة عالية في السماء، حصنًا من الربيع الدائم، حصنًا من الأشواق والحب والعواطف بلا حدود.
وبما أنني أتحدث عن حب الزمن الجميل، فلم يكن هجر الحبيب قرارًا دائمًا، فسرعان ما يتم التراجع عنه، بسبب الأشواق الملتهبة ورغبة في اللقاء بعد طول انتظار، وقد عبّرت كلمات أحمد رامي عن الهجران في «هجرتك» بصوت أم كلثوم، فيما فجّرت كلمات الشاعر مرسي جميل عزيز مشاعر الانتظار في رائعته «أنا بستناك» بصوت نجاة الصغيرة.. لقد انتابت أم كلثوم مشاعر متضاربة ما بين رغبتها في هجر حبيبها وما بين القدرة على نسيانه، وفي النهاية لم تستطع بسبب الحب حتى إنها فكّرت فيه وهي ناسية، فلم تستطع الهجران لأن هوى حبيبها يجري في دمها.
وما بين الهجر والانتظار كانت للحب معانٍ جميلة، حب تشعر به كل حواس الإنسان، حب عفيف طاهر، والأهم إنه حب دائم، لا ينشغل حبيب عن حبه، ويكون ادعاؤه انشغاله بعمله ومتاعبه ونومه المتواصل، فمع رحلة «هجرتك» لم تستطع أم كلثوم نسيان المهاجر، ومع الشوق للحبيب انتظرت نجاة بقلبها وعيونها، فكان الحب الذي لا نشعر به الآن.
إنه حب الزمن الجميل الذي كان مثل الفجر تنبزغ منه الشمس، مثل الزهرة تحتاج للماء كي تزهر وتنبت، وماء الحب لا ينضب، خاصة إذا اعتبرنا أن «كل ما لا يتجدد يتدهور»، وهذا هو الحب، يحتاج إلى تجديد حتى لا تعطش مسامه وتجف، حب يتأسس بالتفاهم وليس بالاعتذارات والبُعد والتعلل بأسباب واهية؛ لأن الحب احتواء مثل الشجرة التي تروى بالماء باستمرار، والحب في حاجة إلى الصدق والثقة كالنبتة إذا أهملناها ذبلت، والحب يتطلب ارتواء عواطفه حتى لا يقضي عليه الروتين اليومي للحياة، ومع ذلك نحن في انتظار «الفجر» لأننا لن نفرّط فيه.

كاتب ومحلل سياسي بحريني