ساعة ألمانيا

مقالات رأي و تحليلات الثلاثاء ٢٦/سبتمبر/٢٠١٧ ٠٤:٠٣ ص
ساعة ألمانيا

روبرت سكيدلسكي

من يدير الاتحاد الأوروبي؟ في عشية الانتخابات العامة في ألمانيا، يأتي هذا السؤال في الوقت المناسب تماما.

إحدى الإجابات النمطية على هذا السؤال هي: «الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي» ــ كل الدول الثماني والعشرين. وهناك إجابة أخرى: «المفوضية الأوروبية». لكن بول ليفر، سفير بريطانيا الأسبق إلى ألمانيا، يقدم إجابة أكثر وضوحا: فعنوان كتابه الجديد هو «برلين تحكم»، وفيه يقول: «لقد أظهرت ألمانيا الحديثة أن السياسة قادرة على تحقيق ما كان يتطلب تحقيقه إشعال حرب».

ألمانيا هي الدولة الأكثر سكانا في الاتحاد الأوروبي وهي المصدر الذي يزوده بالطاقة، حيث تمثل أكثر من 20% من الناتج المحلي الإجمالي للكتلة. ويبدو أن تحديد سبب نجاح ألمانيا اقتصاديا أمر بالغ الصعوبة. ولكن تبرز ثلاث سمات فريدة من نوعها لما يسمى نموذج راين لاند.
فأولا، حافظت ألمانيا على قدرتها التصنيعية على نحو أفضل كثيرا من غيرها من الاقتصادات المتقدمة. فلا يزال التصنيع يمثل 23% من الاقتصاد الألماني، مقارنة بنحو 12% في الولايات المتحدة، و10% في المملكة المتحدة. ويوظف قطاع التصنيع 19% من قوة العمل الألمانية، في مقابل 10% في الولايات المتحدة ونحو 9% في المملكة المتحدة.
يتناقض نجاح ألمانيا في الإبقاء على قاعدتها الصناعية مع الممارسة التقليدية في الدول الغنية والمتمثلة في نقل التصنيع إلى مواقع حيث تكاليف العمالة أقل. ولكن ألمانيا لم تقبل قَط النظرية الثابتة للميزة النسبية التي تقوم عليها هذه الممارسة. وبما يتماشى مع إرث رائد الاقتصاد الألماني فريدريش ليست، الذي كتب في العام 1841: «وعلى هذا فإن قوة إنتاج الثروة أكثر أهمية على نحو مطلق من الثروة ذاتها»، حافظت ألمانيا على تفوقها الصناعي من خلال ألتزام لا هوادة فيه بإبداع عمليات التصنيع، بدعم من شبكة من المعاهدة البحثية. وقد أعطاها النمو الذي تقوده الصادرات ميزة العائدات المتزايدة بفعل حجم التصنيع الكبير.
وتتلخص السمة الثانية للنموذج الألماني في «اقتصاد السوق الاجتماعي»، والذي ينعكس على أفضل وجه في نظام «التقرير المشترك» الصناعي. فوحدها بين الاقتصادات المتقدمة الكبرى، تمارس ألمانيا «رأسمالية أصحاب المصلحة». فكل الشركات ملزمة بموجب القانون بإنشاء مجالس عمل. وتُدار الشركات الكبيرة من قِبَل مجلسين: مجلس إداري ومجلس إشرافي، يقسم بالتساوي بين المساهمين وممثلي الموظفين، ويتخذ القرارات الاستراتيجية. وبالتالي فإن مقاومة نقل الأعمال إلى الخارج تُصبِح أكثر قوة من أي مكان آخر، وكذلك الرغبة في تقييد تكاليف الأجور.
وأخيرا، هناك التزام ألمانيا القوي باستقرار الأسعار. فلم تكن ألمانيا في احتياج إلى دروس من ميلتون فريدمان حول شرور التضخم. بل كانت هذه الدروس متأصلة في مؤسستها الأشهر بعد الحرب، البنك المركزي الألماني.
يقترح ليفر أن ذكرى انهيار العملة في الفترة 1945-1948، وذكرى التضخم المفرط في العشرينيات، هي التي ثبتت هذا الدرس في الأذهان. وعلى نحو مماثل، يعكس النفور من العجز العام مقاومة السكان للمديونية الخاصة.
من الناحية المؤسسية، أصبح الاتحاد الأوروبي أشبه بألمانيا مكبرة. إذ تعكس المفوضية، والبرلمان الأوروبي، والمجلس الأوروبي، ومحكمة العدل الأوروبية، البنية غير المركزية لألمانيا ذاتها. ويعكس إنجيل «التبعية» في الاتحاد الأوروبي تقسيم السلطات بين الحكومة الفيدرالية الألمانية والولايات. وتضمن ألمانيا شغل الألمان للمناصب القيادية في هيئات الاتحاد الأوروبي. ويحكم الاتحاد الأوروبي من خلال مؤسساته، ولكن الحكومة الألمانية تحكم هذه المؤسسات.بيد أن الحديث عن «الهيمنة» أو حتى «القيادة» يُعَد من المحظورات في ألمانيا ــ وهو التحفظ النابع من اعتزام الألمان عدم تذكير الناس بماضي بلدهم المظلم. ولكن إنكار القيادة والاستمرار في ممارستها رغم ذلك يعني أن مناقشة مسؤوليات ألمانيا ليست في حكم الممكن. ويفرض هذا تكاليف على دول الاتحاد الأوروبي الأخرى ــ وخاصة التكاليف الاقتصادية.
لقد خلقت ألمانيا نظاما من القواعد التي تعمل على ترسيخ ميزتها التنافسية. وتستبعد العملة الموحدة إمكانية خفض القيمة داخل منطقة اليورو. ويضمن هذا أيضا أن تظل قيمة اليورو أقل من القيمة التي قد تكون عليها العملة الألمانية الخالصة.
تنص معاهدة الاتحاد الأوروبي الأخيرة بشأن الاتحاد المالي ــ التي خلفت ميثاق النمو والاستقرار ــ على التزامات قانونية واجبة بميزانيات منضبطة وديون وطنية متواضعة، بدعم من الإشراف والعقوبات. وهذا من شأنه أن يحول دون التمويل بالعجز لتعزيز النمو. والواقع أن إصرار ألمانيا على أن تكون التكاليف غير المتعلقة بالأجور متساوية في مختلف أنحاء الاتحاد الأوروبي ليس أداة لتعزيز القدرة التنافسية الألمانية بقدر ما يرمي إلى تقليص قدرة الدول الأخرى.
وعلى هذا فإن الاتحاد الأوروبي، وخاصة دول منطقة اليورو التسع عشرة، يعمل كقاعدة رئيسية واسعة لألمانيا، يمكنها أن تشن مِن عليها هجومها على الأسواق الخارجية. وهي قاعدة قوية. فصادرات ألمانيا إلى الاتحاد الأوروبي تزيد على وارداتها منه بنحو 30%، وهي تدير واحدا من أكبر فوائض الحساب الجاري في العالَم.
وهي هيمنة حميدة وليست وحشية. ولكن في قلبها يكمن تناقض هائل. ذلك أن الحسابات الوطنية لابد أن تتوازن. فالفائض في جزء من أوروبا يعني العجز في جزء آخر. وقد تأسست منطقة اليورو من دون آلية تحويل مالية لنجدة أفراد الأسرة الذين ينزلقون إلى مشاكل؛ ويُحظَر على البنك المركزي الأوروبي العمل كملاذ أخير للإقراض للنظام المصرفي؛ وقد انهار اقتراح المفوضية الأوروبية بإنشاء سندات اليورو ــ إصدارات من السندات الوطنية المضمونة جماعيا ــ بسبب اعتراض ألمانيا لأنها ستتحمل أغلب الالتزامات المترتبة على ذلك.
كانت ألمانيا على استعداد لتوفير التمويل العاجل لدول منطقة اليورو المثقلة بالديون مثل اليونان، شريطة أن تعمل على «ترتيب أوضاعها الداخلية» ــ خفض الإنفاق الاجتماعي، وبيع أصول الدولة، واتخاذ خطوات أخرى تجعلها أكثر قدرة على المنافسة. ولا يرى الألمان أي سبب يدفعهم إلى اتخاذ إجراءات من جانبهم لتقليص قدرتهم التنافسية الفائقة.
ولكن ماذا يمكن عمله لتحقيق تسوية أكثر تجانسا بين الدائنين والمدينين في أوروبا؟ باستبعاد آلية التحويل المالي، ربما يمكن تعديل خطة جون ماينارد كينز في العام 1941 لإنشاء اتحاد مقاصة دولي بحيث تصلح لمنطقة اليورو، على أن تحتفظ البنوك المركزية في الدول الأعضاء بأرصدتها المتبقية من اليورو في حسابات لدى بنك مقاصة أوروبي. وسوف تُفرَض الضغوط على الدول الدائنة والمدينة بشكل متزامن لحملها على موازنة حساباتها، من خلال فرض أسعار فائدة متزايدة على اختلالات التوازن المتكررة.
يُعَد إنشاء اتحاد مقاصة للاتحاد الأوروبي اعتداءً أقل وضوحا على المصالح الوطنية الألمانية مقارنة باتحاد التحويل المالي. بيد أن بيت القصيد هنا هو أن نجاح منطقة اليورو يستلزم استعداد القوي لإبداء التضامن مع الضعيف. وفي غياب آلية ما لتحقيق هذه الغاية، سوف يترنح الاتحاد الأوروبي من أزمة إلى أخرى ــ وربما يفقد بعض الدول الأعضاء على طول الطريق.

عضو مجلس اللوردات البريطاني، وأستاذ

الاقتصاد السياسي الفخري في جامعة وارويك.