أوبرا عايدة

مقالات رأي و تحليلات الخميس ١٢/أكتوبر/٢٠١٧ ٠٤:٠٥ ص
أوبرا عايدة

سمعان كرم

تركتُ عند مدخل دار الأوبرا السلطانية، سلة مليئة بالانشغالات الحياتية، من حسابات بنوك ومشاريع متأخرة ونسب تعمين ومعاشات الموظفين واجتماعات اللجان، ولجان اللجان، ورميت هاتفي الجوال في السيارة، وابتعدت عن مكتبي وأوراقه وصخبه. انعزلت عن العالم فأفرغت عقلي وسلَّمت نفسي لحواسي وقلبي وحدسي.

دخلت في بهو الاستقبال الرائع في هندسته والأنيق برخامه وخشبه، دخلت في هيبة الجمال إذ إن للجمال هيبة، وتجاهلت من أعرفهم من الحضور لتحاشي الوقوع في ضوضاء الحياة من جديد، وسارعت للتعرف على مقعدي بمساعدة شباب وشابات عمانيين يفخر الزائر بتدريبهم وتهذيبهم وأدبهم. جلست على المقعد أقرأ كتيِّب التعريف بأوبرا عايدة إلى أن دقت الساعة السابعة مساءً، وخَيم صمت مهيب على القاعة، ذكرني بصمت الصحراء عندما كنت أتجول فيها وأتوقف وأطفئ محرك السيارة فتتحرك الأذنان وتكبران لاصطياد أي صوت فلا تجدانه، فيخاف القلب ويرتعش. الإنارة الخفيفة والصمت التام جعلاني أكثر انتباهاً واستعداداً لاستقبال الأحداث. وانطلقت أنغام فردي (Verdi) من جوقة ربطت أصابعها وعيونها بعصا قائدها، فخرجت الألحان تملأ المكان وتواكب الأحداث الجارية على المسرح. فتأتي رقيقة لتغمر لقاء عاشقين، وتأتي فرحة باستقبال بطل عاد منتصراً من جبهة القتال، وتفرض الخشوع في معبد الآلهة والإجلال أمام ملك البلاد. تشدو شخصيات القصة بكلامها غناءً فيتلاحم الغناء مع الموسيقى تلاحماً حميماً، ويأتي التعبير قوياً للغاية مما يشعل الحواس ويشغلها عن محيطها فيطير المشاهد بكامل وجوده ويرافق النص واللحن والمعنى والأحداث. وهي التجربة التي أراد المخرج أن يعيشها الحاضرون.
صحيح أن الأحداث تلك ترد من زمن قديمٍ، لكن المشاعر والحالات التي يمر بها أبطال القصة تبحر في التاريخ غير مبالية بالزمن، واثقة بخلودها طالما هناك بشرٌ على هذه الأرض، فتفرض نفسها على كل عصرٍ وعلى كلٍ إنسانٍ عبر هذه الدنيا.
أحب راداميس (Radames) وهو القائد المظفر في بلاط مصر، أحب جارية أو بالأحرى أسيرة حرب ملكية من بلاد الحبشة اسمها عايدة (Aida). أحبها حباً جارفاً، كما أحب عنترة عبلة، وكما عاشته جولييت (Juliette) مع حبيبها روميو (Romeo)، وعاش كل منَّا جزءاً منه في مرحلة ما من حياتنا، وأقول جزءاً لأننا لم نمت بسببه، كما فعل روميو أو راداميس. مما يجعلنا نفهم هذا العاشق ونبرر تصرفاته فداءً للحب، ونؤيد سعيه للفوز بقلب حبيبته الغالية.
عندما هاجم ملك الأحباش أرض مصر لتحرير ابنته عايدة من الأسر والعبودية، كلف الكهنة راداميس بصدِّ هجوم الأعداء ودحرهم. قبل البطل هذا التكليف بدافع وطنيته لكنه كان أيضاً يأمل أن ينال رضى الملك فيسمح له استثنائياً أن يتزوج من جارية عدوه، إذ كان يحق للقائد المنتصر أن يطلب طلباً واحداً لا يرفضه الملك. عندما عاد مظفراً ولاقاه الشعب بالزغاريد وغصون الغار أقيمت حفلة في البلاط على شرفه تخللتها الأناشيد والرقصات. رقصت الفرقة رقصة أثبتت أن الفن لا يعرف الزمن فيعبر العصور ويواكب الناس ويلازمهم في رحلتهم في هذه الدنيا، رقصة رسمت لوحات على موسيقى مؤلف إيطالي من القرن التاسع عشر، أدَّاها شباب من القرن الحادي والعشرين تعبيراً عن أحداث وقعت منذ آلاف السنين أو حتى لو أنها نسجت من الخيال. إن الحركات التعبيرية جاءت فرعونية الجوهر وحديثة الأداء، هذا هو الفن الخالد أي إمكانية التعبير بالتجدد والحداثة عن مواقف ومشاعر تعيشها الإنسانية منذ أن وجدت، فكل الحضارات عرفت الحب والحسد والفخر والمكيدة والخيانة والبطولة والانتقام والرحمة والموت. موهبة مؤلف الموسيقى والكاتب والشاعر والرسام والمغني والسينمائي تكمن في وصف تلك المشاعر بألوان جديدة ومتجددة.
فوجئ راداميس بأن الملك أعد له هدية لا يمكنه رفضها بإعطائه ابنته عروساً له، هي التي تعشق راداميس لكنها كانت تخشى تعلقه بعايدة.
تتعقد الأمور ويرتكب راداميس خطأً يكلفه حياته إذ باح بسرٍ لعايدة عن تحرك جيوش مصر استغله الأحباش للانتصار على مصر.
خيانة عظمى حاكمه الكهنة عليها بدفنه حياً في مقابر الموتى، علمت عايدة بمجريات الأحداث، وكانت قد هربت من القصر واختبأت غائبة عن الأنظار. علمت بمصير حبيبها فسبقته إلى المقبرة لتجتمع به هناك في القبر وتموت معه بعد أن حرمتها الحياة من العيش معه خارج القبر.
سهرة في الأوبرا السلطانية تحررك من الهموم اليومية وتجعلك تتطلع على حضارات أخرى دون عناء وتكلفة، سهرة تغنيك وتثريك وتجعلك تثمِّن حضارتك، وألا نبقى كما أهل بلدتي التي ولدت أنا فيها بلبنان، فهم فخورون بأنهم يطهون أطيب وجبة «كبة» في العالم في الوقت الذي أشك فيه بأن أحدهم تذوق ولو مرة أية «كبة» أخرى حتى يتمكن من المقارنة والمفاضلة.
قد نختلف بالملابس والعادات والألوان، لكننا نتوحد بالمشاعر الإنسانية التي يبينها لنا الفن على أنواعه، فهو لغة الأزمنة التي يفهمها الجميع.