مواهب من «الأشخاص الجميلين»

مقالات رأي و تحليلات الاثنين ٢٣/أكتوبر/٢٠١٧ ٠٣:٥١ ص
مواهب من «الأشخاص الجميلين»

باميلا كسرواني

«أتمنى أن أصبح أفضل رسام بالأبيض والأسود في العالم». بحماس وشغف وفخر وابتسامة عريضة حدّثنا الفنان الإماراتي عبد الله لطفي عن طموحاته ولوحاته التي تكشف مجموعة من الناس المختلفين من حيث الجنسيات والخلفيات المتحدثين بلغات متعددة في عمل بعنوان «أهلاً بكم في دبي»؛ لوحات عُرضت، قبل أسابيع، في صالة عرض «كوادرو» في دبي في أول عرض فردي لهذا الشاب الإماراتي الذي يكشف لنا «أحب الأسود والأبيض كثيراً منذ أن كنت صغيراً لأنها أفضل من الألوان وتذكرني بالمانغا اليابانية والرسوم الهزلية».

موهبة لطفي التي كانت تساعده منذ الصغر على التواصل مع الآخرين تطوّرت ونمت بفضل بيئة حاضنة وجدها في استوديو «مواهب من الأشخاص الجميلين» في حي الفهيدي التاريخي بقلب دبي؛ استوديو يريد أن يكون فضاء للطلبة من ذوي الحاجات الخاصة لتعلّم المهارات الفنية وتطوير الثقة بالنفس في بيئة آمنة ومريحة.
وبالفعل، حالما تطأ عتبة الاستوديو يُخالجك شعور غامر بأنك دخلت مكاناً مفعماً بالحيوية والألوان والضجيج والكثير من الجمال. تستقبلنا ويمي دي ماكير، المؤسسة والمديرة العامة في متجر المؤسسة حيث تُعرض أعمال الطلاب للبيع لتُشكل القطع، من الحقائب إلى اللوحات والتماثيل وغيرها، هدية مثالية لكل المناسبات.
ولا شك أننا نستهل حديثنا مع بدايات «مواهب» وهنا تسترسل ويمي بالحديث قائلة «عندما انتقلت للعيش في دبي مع زوجي وولدَي، كان أول سؤال طرحته على زوجي «أين هم كبار السن وأين هم ذوي الاحتياجات الخاصة؟ فنحن لا نراهم في مراكز التسوق أو في الشوارع أو الصالات الرياضية.. وكان هذا السؤال طبيعياً بالنسبة لي لأنني ممرضة وعملت لأكثر من 15 عاماً مع ذوي الاحتياجات الخاصة». وحينها، بدأت رحلتها مع هؤلاء في دبي في إحدى المدارس المتخصصة لكنها سرعان ما أدركت أنها تستطيع إنجاز المزيد. بدأت أبحاثها وعملت على حملات توعية وتواصلت مع عائلات ذوي الاحتياجات الخاصة ومع منظمات أجنبية لتحملها المثابرة والتفاني في العمل إلى ما هي عليه اليوم.
وهنا تخبرنا «افتتحنا أبوابنا في الثالث من أكتوبر 2010 حيث تحولت الفكرة إلى مشروع احتاج الكثير من المجهود إلا أننا نجحنا بسرعة بجذب الطلاب. ففي غضون عام واحد في البداية، انتقلنا من أربعة طلاب إلى عشرين منهم». وتشرح لنا أن «مواهب من الأشخاص الجميلين» هو استوديو فني للراشدين من ذوي الحاجات الخاصة أي أنهم يستقبلون طلاباً يبلغون 16 عاماً وما فوق. وتقول «حالياً أصغر طلابنا عمره 18 عاماً وأكبرهم 60 عاماً!»
طلاب يملؤون المكان بشخصيتهم وأفكارهم ومواهبهم التي لم يكن بعضهم يعرف حتى بوجودها، كلّ على طريقته. فينياك يقدّم لنا كوباً من القهوة هو الذي كان يُساعد خلال زيارتنا في خدمة زبائن المقهى ويأخذ مهمته على محمل الجد.
رفاقه أكثر تفاعلاً ولا يترددون في التقرّب مني للحديث عن اهتماماتهم. أنجي البالغة من العمر 30 عاماً تسألني عن عملي وتكتب لي بفخر «أنا راشدة، أنا أحب الفن، أنا أعيش للرقص» وترافقني في رحلة التعرّف على أصدقائها. جايمس (30 عاماً) تحوّل اليوم إلى متحدث عام حول التنمّر الذي عانى منه في المدرسة. ويقول لنا «أتحدث مع الطلاب في المدارس لأنني أفهم ما يشعرون به. في البداية، كنت أتوتر كثيراً لأنني أتحدث أمام 100 شخص. أنا اليوم أحب أن ألهم المراهقين وأن أدعو إلى وقف التنمّر». أما جوروجيا (19 عاماً)، فوجدت سعادتها في اليوغا وتقوم أمامنا بحركة غروب الشمس والشجرة الأحب إلى قلبها. وهي اليوم، تعطي دروس اليوغا الصباحية في الاستوديو.
الفنون على أنواعها ليست المواد الوحيدة التي يتعلمها طلاب الاستوديو البالغ عددهم اليوم 25 شخصاً من مختلف الجنسيات لا بل يتابعون برنامجاً يومياً متنوعاً ومليئاً بالنشاطات. تخبرنا ويمي أن الطلاب يحضرون في الساعة الثامنة والنصف صباحاً ليبدأ نهارهم بجلسة يوغا أو رقص يعلّمها مجموعة من المتطوعين. هذه الدروس تهدف إلى تطوير قدرة التركيز والتمرين باستخدام جزئَي الدماغ وتطوير مهارات التعامل مع الضغوطات والغضب والملل والإحباط.
وبعدها، يتناولون وجبة خفيفة ثم يتوزعون على صفوف فنية مختلفة مثل الفن الثلاثي الأبعاد، النحت، الفسيفساء، الرسم وحتى فن التصوير أو فن الخطابة.. وتتابع «في كثير من الأحيان، نجتمع لمناقشة موضوع الفن الذي نعمل عليه، أو فنان معين، أو أمور حدثت بحياة أحدهم أو حدث عالمي. نشجعهم على أن يكون لديهم رأي وعلى التفكير بأنفسهم ونُظهر لهم أن الناس يستمعون ويحترمون رأيهم». وهنا تتوقف متنهدة، وتقول: «أتذكر المحادثة الأولى التي أجريناها. سألني أحد الطلاب: «هل تسأليني رأيي؟ فأجبته نعم لهذا السبب نحن هنا لأننا نريد منك أن تفكر، وقال: «لقد كنت في المدرسة لسنوات، ولم يطلبوا يوماً رأيي».
مثال ليس استثنائياً، فترى ويمي أنه «غالباً ما نقوم بالتفكير عن ذوي الاحتياجات الخاصة ولا ندعهم يتصرفون بمفردهم لا بل نعاملهم على أنهم أغبياء، ولكنهم الأكثر ذكاء لأنهم يتصرفون على مستوى مختلف تماماً». النظرة المختلفة التي يحملها فريق عمل «مواهب» المؤلف من مدرسَي فنون وثلاثين متطوعاً تُساهم في تطوير شخصيات الطلاب حتى لو لم يتحوّلوا جميعهم إلى فنانين ماهرين. يبقى الفن وسيلة لمساعدتهم على أن يكونوا مواطنين كغيرهم في المجتمع.
تطلعنا ويمي «لدينا عدد من الطلاب الموهوبين جداً الذين تحوّلوا إلى فنانين وآخرون يستمتعون بالفنون التي تساعدهم على تطوير أنفسهم ليُصبحوا راشدين مستقلين».
ويقول لنا ألين مونغاي، وهو فنان بصري محترف ومدرّس الفنون في «مواهب»: إنني «أجد مقاربتنا ممتازة لأن الفن بحد ذاته هو طريقة للتعبير عن الذات كما أنه يساعد ذوي الحاجات الخاصة على التعبير عن مشاعرهم بطريقة أسهل لا تجرحهم». ويتابع قائلاً: «هذا العمل مجزٍ جداً لاسيما أنك ترى تركيز الطلاب على ما يفعلون واهتمامهم وكيف يساعدهم الفن على بناء ثقتهم بنفسهم، والسماح لهم باستكشاف أفكارهم الخاصة، وإعطائهم الشعور بالفخر..»
لا شك في أن كل طلاب الاستوديو لن يتحوّلوا إلى فنانين بارعين ولن يُنظموا معارضهم الفردية على غرار عبد الله إلا أن «مواهب» تحرص على تمهيد الطريق لكل منهم ومساعدتهم على التألق. وتخبرنا ويمي «بالطبع، يدفعون رسوماً للالتحاق بالاستوديو لأنهم هنا لكي يتعلّموا. ولكن، عندما نرى الموهبة، ننميها وندعهم ينطلقون إذا كانوا قادرين على الاهتمام بأنفسهم. فعلى غرار أهاليهم، نتعلم أن نحترم استقلاليتهم لأن هدفنا الرئيسي هو أن نمنحهم هدفاً في الحياة».
لا تتردد «مواهب» في دعم الطلاب الذين حلّقوا مستقلين وإنما أيضاً تُسلط الضوء على طلابها الحالييّن من خلال بيع أعمالهم في المتجر كما ذكرنا وإنما أيضاً إبرام الشراكات. وتخبرنا ويمي: «نعمل الآن مع «مطارات دبي» حيث يتم عرض أعمال طلابنا ضمن مبادرة تدعم أصحاب الهمم وتتيح عرض أعمالهم على زوار مطارات دبي». كما تنظم «مواهب» معارض أربع مرات سنوياً حيث يستقبل الطلاب الزوار ويتحدثون عن أعمالهم.
هذه النشاطات تُساعد الطلاب على اكتساب الثقة وفرض أنفسهم كأعضاء فاعلين في المجتمع كما أنها إحدى الوسائل الضرورية لاستدامة المبادرة. وتطلعنا ويمي أنهم يحاولون تحقيق الاستدامة الذاتية من خلال رسوم الانتساب إلى الاستوديو، وبيع الأعمال الفنية، وتنظيم الفعاليات للشركات ضمن برامج مسؤولي الشركات الاجتماعية.
ولا تتوقف نشاطات وطموحات «مواهب من الأشخاص الرائعين» لا بل تعمل ويمي على مواصلة الشراكات القديمة وإبرام شراكات أخرى من جهة وتضاعف جهودها، هي وفريقها، من أجل توعية أكبر لدمج ذوي الاحتياجات الخاصة أو بالأحرى «أصحاب الهمم» في مجتمعاتنا. فقد حوّلت ويمي «مواهب» إلى أكثر من استوديو فنّي لا بل إلى مدرسة حياة موجهة رسالة للجميع بالقول: «احتضنوا الاختلاف ولا تحكموا على ما ترون». ويبقى الأهم أن نتعامل نحن، كأفراد، مع ذوي الاحتياجات الخاصة بطريقة طبيعية والتعامل معهم كأي شخص آخر.

متخصصة في الثقافة والمواضيع الاجتماعية