العدالة الصحية

مقالات رأي و تحليلات الثلاثاء ١٤/نوفمبر/٢٠١٧ ٠٣:٤٩ ص
العدالة الصحية

أجنس بيناجواهو

تخيّل بلداً حيث يتمتع نحو 90%من السكان بتغطية التأمين الصحي، وأكثر من 90%من المصابين بفيروس نقص المناعة البشرية يتّبعون نظاماً ثابتاً في العلاج بالعقاقير، ونحو 93%من الأطفال محصنين ضد الأمراض المعدية الشائعة بما في ذلك فيروس الورم الحليمي البشري. هل يمكنك أن تخمّن أين تقع أرض العدالة الطبية المسحورة هذه؟ في إسكندنافيا؟ في كوستاريكا؟ في نارنيا؟ جرب أفريقيا رواندا على وجه الدقة.

في بلدي الأصلي، تُعَد الرعاية الصحية حقاً مكفولاً للجميع، وليس امتيازاً محفوظاً للأثرياء والأقوياء. وتظل رواندا بلداً فقيراً، ولكن على مدار السنوات الخمس عشرة الفائتة، اكتسبت أوجه التقدم في الرعاية الصحية هناك اهتماماً عالمياً، ولسبب وجيه. ففي العام 2000، كان متوسط العمر المتوقع عند الولادة لا يزيد على 48 عاماً، واليوم أصبح 67 عاماً. كانت المساعدات الدولية عوناً كبيراً بطبيعة الحال، ولكن إنجازاتنا ترجع في المقام الأول إلى إبداعات أخرى غير مالية.

فبادئ ذي بدء، أسست رواندا نهجاً جماعياً تعاونياً في الإدارة الحكومية سمح لنا بتحقيق المزيد من الإنجاز باستخدام نفس القدر من التمويل. وعلاوة على ذلك، يتبنّى موظفونا المدنيون حل المشاكل، ويظهرون مستوى من سِعة الحيلة أفرز العديد من الحلول لتحديات التنمية البشرية مثل ضمان الأمن الغذائي والإمدادات الكافية من المياه النظيفة والإسكان.
ولكن لعل العامل الأكثر أهمية وراء المكاسب الكبيرة التي نجحنا في تحقيقها في مجال الرعاية الصحية كان أجندة العدالة الوطنية، التي تحدد أهدافاً لدعم المحتاجين وتتابع التقدم نحو تلبية هذه الأهداف. ومنذ بدأ تنفيذ هذا النهج، تمكنت رواندا من خفض نسبة الأشخاص الذين يعيشون في فقر مدقع من 40%من السكان في العام 2000 إلى 16.3%في العام 2015.

إلى جانب الفوائد الواضحة، تشكل هذه المكاسب أهمية كبرى؛ لأن العائد المحتمل على الاستثمار في الخدمات الاجتماعية لصالح الأطفال الضعفاء في أي بلد، كما صرّحت منظمة اليونيسف مؤخراً، يُصبِح أعظم مرتين عندما تصل الفوائد إلى أشد الفئات ضعفاً. بعبارة أخرى، حققت رواندا الكثير بسرعة كبيرة لأننا نتمتع بمعدلات عائد أعلى من خلال الاستثمار في الفئات الأشد فقراً.
في سبيل تحقيق العدالة الصحية، جعلت رواندا القدرة على الوصول إلى الرعاية الصحية على رأس أولوياتها. واعتباراً من العام 2016، كان تسعة من أصل كل عشرة روانديين مسجلين في واحد من برامج التأمين الصحي في البلاد. فأغلبية السكان مسجلون في برنامج التأمين الصحي القائم على المجتمعات المحلية، والذي ساعد في زيادة قدرة المواطنين الأكثر ضعفاً في رواندا على الحصول على الرعاية الصحية عن طريق التنازل عن الرسوم.
ونتيجة لهذا، يُعَد نطاق تغطية الرعاية الصحية في رواندا مرتفعاً وفقاً للمعايير العالمية وما يجعل هذا الأمر أكثر إبهاراً هو أنه حدث في الدولة التي عانت من فظائع وأهوال الإبادة الجماعية قبل جيل واحد. ولنتأمل هنا الوضع في الولايات المتحدة: فرغم انخفاض معدل الأمريكيين غير المؤمَّن عليهم بشكل حاد في ظل قانون الرعاية الميسرة لعام 2010، يواجه المؤمَّن عليهم زيادات سريعة في الأقساط والمصاريف النثرية. وربما ينبغي للولايات المتحدة أن تنظر في اعتماد برنامج على غرار نظام التأمين الصحي القائم على المجتمعات المحلية، لتحقيق المزيد من خفض أعداد الأمريكيين الذين يواجهون حواجز مالية تحول دون حصولهم على الرعاية الصحية.
لقد صاغت رواندا نظام تسليم الرعاية الصحية وهي تضع في الاعتبار القدرة على الوصول إلى الرعاية أيضاً، وذلك من خلال نشر العاملين الصحيين المجتمعيين إلى قرى البلاد التي يبلغ عددها 15 ألف قرية. ويقوم هؤلاء الممارسون المحليون بدور حرّاس البوابات في إطار نظام نجح في الحد من زمن الانتظار والأعباء المالية من خلال معالجة المرضى مباشرة وغالباً في منازلهم.
وبوسع الولايات المتحدة أيضاً أن تستفيد من برنامج العاملين الصحيين المجتمعيين. فالولايات المتحدة تعج بشباب متعلمين وقادرين من خلال عملهم كعاملين صحيين مجتمعيين على سد الفجوة بين المرافق الطبية والمرضى، وبالتالي تحسين رأس المال الاجتماعي الأمريكي والنتائج الصحية. وكما أثبتت تجربة رواندا فإن مثل هذه البرامج لا تعمل على توسيع نطاق الوصول إلى الرعاية الصحية فحسب، بل وتعمل أيضاً على خفض التكاليف الإجمالية من خلال تقليص عدد حالات الإدخال غير الضرورية إلى المستشفيات.
وقد تبيّن أن مثل هذه البرامج قابلة للنقل. فاعتباراً من العام 1997، دعمت بريجهام ومستشفى النساء علاج المصابين بفيروس نقص المناعة البشرية في بوسطن من خلال برنامج الوقاية والوصول إلى الرعاية والعلاج. استندت هذه المبادرة إلى نموذج العاملين الصحيين المجتمعيين الذي نفّذته في المناطق الريفية في هايتي منظمة «شركاء في الصحة» وهي منظمة الرعاية الصحية التي لا تستهدف تحقيق الربح وتجمع بين نموذج العاملين الصحيين المجتمعيين والرعاية الأولية والصحة العقلية.
نتيجة لهذه المبادرة، أنفقت شركة التأمين الحكومية (ميديكيد) قدراً أقل من المال على الإقامة في المستشفيات، كما سجلت النفقات على مرضى الداخل انخفاضاً بلغ 62%. وتستطيع المجتمعات الأخرى في الولايات المتحدة، بل ينبغي لها، أن تدمج نماذج مماثلة في برامج علاج الحالات المزمنة.

كان الإبداع هو الذي أعطى الدَفعة الأولى لإحياء نظام الرعاية الصحية في رواندا، والفِكر التقدمي هو ما يدفعه إلى الأمام. على سبيل المثال، توفر المراكز الصحية المنتشرة في مختلف أنحاء البلاد اللقاحات وتعالج الأمراض التي لا يستطيع العاملون الصحيون المجتمعيون علاجها على مستوى القرى، كما تقدم خدمات القِبالة (التوليد) لغالبية النساء في رواندا.
وما يزيد من فرص الوصول إلى الخدمات أن كل مقاطعة في رواندا لديها مستشفى واحد، وفي كل منطقة في البلاد مستشفى إحالة أو مستشفى تعليمي يضم متخصصين للتعامل مع الحالات الأكثر صعوبة. ورغم أن بعض المستشفيات ما تزال تعاني من نقص العاملين، فقد سعت الحكومة إلى سد هذا النقص من خلال مبادرة توظف أعضاء هيئة التدريس من أكثر من 20 مؤسسة أمريكية للمساعدة في تدريب المتخصصين في الرعاية السريرية في رواندا.
في غضون ما يزيد قليلاً على العشرين عاماً، وبفضل الحلول المحلية والتعاون الدولي، نجحت رواندا إلى حد كبير في تخفيف عبء الأمراض الذي يثقل كاهل شعبها واقتصادها. ونحن الآن نتطلع إلى المستقبل، وهدفنا هو تثقيف قادة الغد لتمكينهم من البناء على نظام الرعاية الصحية العادل الذي أنشأناه. وهذه مهمة جامعة العدالة الصحية العالمية، وهي جامعة جديدة مقرها في المناطق الريفية في رواندا والتي جعلت من العدالة والتعاون والإبداع مبادئ هادية تسترشد بها.
بصفتي طبيبة رواندية ساهمت في بناء نظام الرعاية الصحية في بلادي منذ بداياته الأولى، أشعر بالفخر بما أنجزناه في مثل هذا الزمن القصير. ولم يكن ما فعلناه سحراً، بل كان صيغة ناجحة. ومن خلال التعاون العالمي المستمر، تستطيع بلدان أخرى، بما في ذلك المتقدمة، أن تتعلم كيف تطبقه.

وزيرة الصحة الأسبق في رواندا، وتشغل حالياً منصب نائبة رئيس جامعة العدالة الصحية العالمية. وفي العام 2017 التحقت بعضوية الأكاديمية الوطنية الأمريكية للطب.