هواجس ألمانية

مقالات رأي و تحليلات الخميس ١٦/نوفمبر/٢٠١٧ ٠٤:٣٧ ص
هواجس ألمانية

جين بيساني فيري

في حين يسعى حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي، وشقيقه البافاري حزب الاتحاد الاجتماعي المسيحي، إلى تشكيل «ائتلاف كبير» غير مسبوق مع حزب الديمقراطيين الأحرار الليبرالي، وحزب الخُضر، تنتظر بقية أوروبا بقلق شديد البرنامج الحكومي الذي سينتج عن المفاوضات بين هذه الأحزاب.

الواقع أن المخاطر مرتفعة بالنسبة لأوروبا؛ لأننا نعيش وقتاً غير عادي. فمع ظهور النزعة القومية الاقتصادية، والتهديدات الأمنية المتنامية، وأزمة اللاجئين المستمرة، أصبحت الاستجابات الجمعية أكثر ضرورة. كما أصبحت الصين متزايدة العدوانية، وأوضحت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ازدراءها للاتحاد الأوروبي وتشككها في قوة الاقتصاد الألماني.

وفي الداخل، يخضع الأساس المنطقي الذي يقوم عليه الاتحاد الأوروبي للاختبار بفِعل الخروج البريطاني، فضلاً عن الحكومتين العصيتين في بولندا والمجر -الدولتين اللتين ذَكَر كونستانز ستيلزنمولر من مؤسسة بروكنجز مؤخراً أنهما تستمتعان بفوائد عضوية الاتحاد الأوروبي وتتجاهلان ما يقابلها من التزامات.
في هذا السياق، كان انتخاب إيمانويل ماكرون رئيساً لفرنسا في مايو بمثابة الإغاثة لألمانيا. غير أن ماكرون وضع ألمانيا في موقف غير مريح يضطرها إلى الرد على مقترحاته بشأن الإصلاح على مستوى الاتحاد الأوروبي. فمن خلال الدعوة إلى إنشاء صندوق دفاع مشترك للاتحاد الأوروبي، والتنسيق الضريبي، وميزانية مشتركة لمنطقة اليورو، يقلب ماكرون الوضع الراهن الأوروبي رأساً على عقب.السؤال الآن هو ما إذا كانت الدولة الأكبر والأكثر ازدهاراً في أوروبا ستوفر الزعامة التي تتطلبها هذه الأوقات العصيبة. الواقع أن كل حزب في محادثات الائتلاف يجلب منظوراً مختلفاً للغاية إلى الطاولة. فعندما يتعلق الأمر بالشؤون الأوروبية، يجلب حزب أنجيلا ميركل الاتحاد الديمقراطي المسيحي، الذي ظل في السلطة لمدة 12 سنة متتالية، الاستمرارية إلى الطاولة، ولكن حزب الاتحاد الاجتماعي المسيحي الأكثر محافظة ينجذب باتجاه اليمين بفعل المنافسة التي يلقاها من الحزب الشعبوي البديل من أجل ألمانيا.أما عن الحزبين الآخرين، فقد تبنّى حزب الديمقراطيين الأحرار خطاً صارماً في التعامل مع أوروبا، حيث اقترح قادته أن اليونان ينبغي لها أن تترك اليورو، وأن آلية الاتحاد الأوروبي لإنقاذ الدول المتعثرة لا بد أن تُفَكَّك. ومن ناحية أخرى، يحرص حزب الخُضر على تعميق التكامل الأوروبي، ولكن هذا ليس أولويته الأولى، وهو الحزب الأصغر حجماً على الطاولة.
في نهاية المطاف، من المرجح أن يعكس برنامج الحكومة الجديدة الاشتباه في رغبة الدول الأعضاء الأخرى في الاتحاد الأوروبي في حل مشاكلها بالاستعانة بأموال ألمانية بدلاً من تطبيق إصلاحات داخلية. ويقيم الساسة وصنّاع الرأي الألمان كل اقتراح على مستوى الاتحاد الأوروبي تقريباً من خلال هذا المنشور التوزيعي. وعلى نحو روتيني يجري تشريح المخططات التي لا يُقصد منها أن تؤدي إلى عمليات تحويل بنيوية للتأكيد على أنها لن تتحوّل إلى موزعات نقدية لأعضاء آخرين في الاتحاد الأوروبي.
على سبيل المثال، ينظر الألمان إلى الميزانية المشتركة ليس باعتبارها وسيلة لتمويل السلع العامة مثل البحوث أو البنية الأساسية، بل كوسيلة لإجبار ألمانيا على تغطية نفقات دول أخرى. وعلى نحو مماثل، يُنظَر إلى التأمين المشترك ضد البطالة على أنه مخطط لحمل الألمان على تعويض عمال إسبان أو فرنسيين عاطلين. كما يعتبر برنامج ضمان ودائع البنوك وسيلة لإرغام المودعين الألمان على سداد قروض معدومة في إيطاليا.
من المؤكد أن كلاً من هذه المخاوف قد يكون مشروعاً. ولا شك أن كل المقترحات ينبغي التدقيق فيها لضمان عدم إساءة استعمالها أو إحداث مخاطر أخلاقية. والتضامن الأوروبي لا يجري في اتجاه واحد.
ولكن في الوقت نفسه، يتعيّن على القادة الألمان أن يدركوا أن تركيزهم الحصري على التأثيرات التوزيعية أمر هَدّام للغاية. وينبغي لهم أن يتذكروا تلك اللحظة في العام 1979 عندما ذهبت رئيسة الوزراء البريطانية مارجريت تاتشر إلى القمة الأوروبية وقالت: «أريد استرداد أموالي». وكان نفس المنطق معروضاً بعد ما يقرب من الأربعين عاماً خلال حملة الخروج البريطاني، عندما زعم الساسة من أنصار «الخروج» كذباً أن الانسحاب من الاتحاد الأوروبي من شأنه أن «يُعيد المال» إلى هيئة الخدمات الصحية الوطنية.
ولكن لماذا أصبحت ألمانيا مهووسة بالخوف من دفع ثمن أكبر مما ينبغي؟ تحتوي ميزانية الاتحاد الأوروبي على الكثير مما يستحق الانتقاد، ولكنها لا تعامل ألمانيا بشكل غير عادل. ربما تكون ألمانيا المساهم الأكبر، ولكن هذا يرجع إلى كونها صاحبة أكبر اقتصاد. وكنسبة من الدخل الوطني، تساهم دول مثل بلجيكا وفرنسا وهولندا أيضاً بحصة كبيرة من صافي دخلها.
وعلى نحو مماثل، لا تستند المخاوف الألمانية التي تتمثل في أن آلية الاستقرار الأوروبي تخدم كقناة لعمليات تحويل مستترة إلى أي أساس من الصحة. صحيح أن آلية الاستقرار الأوروبي تستفيد من تكاليف الاقتراض المنخفضة، التي يجري تمريرها في الأساس إلى الدول المقترضة. فإذا عجزت اليونان عن سداد ديونها، فسوف يعاني المساهمون في آلية الاستقرار الأوروبي من الخسارة، ولا يعبر سعر الفائدة الذي تدفعه اليونان عن ثمن هذا الخطر. ولكن حتى الآن، كانت آلية الاستقرار الأوروبي تحقق ربحاً ثابتاً، وأي خسارة تتعرض لها سيجري نشرها بين كل المساهمين -بما في ذلك إيطاليا على سبيل المثال. وآلية الاستقرار الأوروبي بعيدة كل البعد عن كونها آلية دعم يموّلها دافعو الضرائب الألمان.
كما يشجب بعض الناس في ألمانيا ما يُسمى أرصدة تارجت 2، والتي تسجل الفوائض الثنائية وعجز البنوك المركزية الوطنية في مواجهة البنك المركزي الأوروبي. على سبيل المثال، يزعم الاقتصادي هانز فيرنر سِن من جامعة ميونيخ أن نظام تارجت تحوّل إلى قناة لعمليات مستترة تستفيد منها الدول المدينة في جنوب أوروبا. صحيح أن صافي الفائض لدى البنك المركزي الألماني بلغ 878 بليون يورو (1.2 تريليون دولار أمريكي) في سبتمبر في مواجهة البنك المركزي الأوروبي، في حين بلغ العجز في إيطاليا 432 بليون يورو وفي إسبانيا 373 بليون يورو. وتعكس هذه المواقف الدرجة التي ما تزال التدفقات الرسمية عندها تحل بديلاً للتدفقات الخاصة.ولكن مرة أخرى، لم يكلِّف هذا الترتيب ألمانيا ولو يورو واحداً. بل على العكس من ذلك، يُعَد نظام تارجت في الأساس مخططاً للتأمين الجمعي: فإذا تخلّف بنك مركزي وطني عن السداد، توزع الخسارة بين المساهمين في البنك المركزي الأوروبي. وبالتالي فإن هذا النظام يسمح للمصدّرين الألمان بالاستمرار في بيع منتجاتهم في جنوب أوروبا؛ لأنه يضمن السداد. والادعاء بأن ألمانيا تخسر من هذا كاذب ببساطة.
من مصلحة أي حزب سياسي دوماً أن يستجيب لمخاوف الناخبين. ولكن من واجب الساسة أيضاً أن يبلغوا الناخبين متى يتبيّن لهم أن مخاوفهم مفرطة أو لا أساس لها من الصحة. وتحتاج أوروبا إلى ألمانيا التي لا تتردد في الاعتراض على المقترحات غير المدروسة، ولكنها تحتاج أيضاً إلى ألمانيا القادرة على التغلّب على هواجسها ضيقة الأفق وتقديم الزعامة.
في إطار محادثات الائتلاف الحالية، يحظى القادة الألمان بالفرصة لتقييم التطورات العالمية الجديدة التي ستخلّف عواقب بعيدة المدى على أوروبا وألمانيا على حد سواء. ويتعيّن عليهم أن يقرروا ما إذا كان التقاعس عن التحرك أشد خطراً أو تولي زمام المبادرة. لا أحد يتوقع تحولاً كاملاً. ولكننا نأمل في الفوز بحكومة أكثر استعداداً لتقديم الحلول.

أستاذ في كلية هيرتي للإدارة في برلين، ويشغل حالياً منصب المفوض العام لشؤون التخطيط السياسي للحكومة الفرنسية.