عودة إلى الرقة

مقالات رأي و تحليلات الأحد ١٩/نوفمبر/٢٠١٧ ٠٤:٢٥ ص
عودة إلى الرقة

ياسين الحاج صالح

في منتصف أكتوبر، نجحت قوات سوريا الديمقراطية، الميليشيا ذات الأغلبية الكردية التي تدعمها الولايات المتحدة والتي تربطها علاقات بحزب العمال الكردستاني في تركيا، في «تحرير» مدينة الرِقة، مسقط رأسي، من قبضة مقاتلي تنظيم (داعش). وفي المدينة حيث كان السكان المحليون لفترة طويلة يُلفَظون إلى مرتبة المواطنين من الدرجة الثانية، كان انتصار حزب الاتحاد الديمقراطي ــ الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني ــ سببا في تأجيج المخاوف من أن يكرر التاريخ نفسه.

كان الناشطون من الرِقة يشيرون منذ فترة طويلة إلى مدينتنا الخربة المهدمة بوصفها «مستعمرة داخلية»، نظرا لتاريخها الطويل من التهميش الاقتصادي، والسياسي، والاجتماعي على يد الحكومات السورية. في أوائل سبعينيات القرن العشرين كانت مدينة الرِقة ــ الصغيرة والفقيرة آنذاك ــ تتحرك رغم ذلك إلى الأمام وتزدهر. وكانت المدارس تتكاثر مع تزايد أعداد الملتحقين بها. وكانت خدمات عامة أخرى آخذة في التحسن أيضا، وتصور الآباء أن أبناءهم سيعيشون حياة أكثر ازدهارا من تلك التي عاشوها هم والأجيال التي سبقتهم.

كان هذا بكل تأكيد اعتقاد أبي وأمي اللذين ضحيا بالكثير لتربية أبنائهما التسعة. لم يشعرا بالسعادة عندما أصبح أبناؤهما الأكبر سنا في السبعينيات شيوعيين معارضين بقوة لنظام حافظ الأسد. ولكن هذا لم يكن تحولا غير وارد في مدينة حيث كان الناس يَدَّعون لأنفسهم هويات جديدة ــ مثل الناصرية، أو البعثية، أو الإسلامية، أو الشيوعية ــ مستصغرين من شأن أصولهم الإقليمية والقَبَلية.ولكن عندما اعتُقِلت في العام 1980، كطالب جامعي في حلب، بدأ المستقبل الذي تصوره أبي وأمي يتبخر في الهواء. وبعد خمس سنوات، اعتُقِل ابن آخر لهما، ثم أعقبه ثالث بعد ستة أشهر. ثم توفيت أمي بمرض السرطان في حين كنا نحن الثلاثة في السجن، ولم تكن هذه الحال استثنائية للسوريين في ذلك الوقت. إذ كنا بين كثيرين من مختلف عناصر الطيف السياسي والإيديولوجي الذين اعتقلوا لأنهم تجرأوا على معارضة النظام. وقد عانى الكثيرون من القمع الشديد، حيث أُنكِر على الناس حقهم في التجمع أو حتى مناقشة القضايا علنا، واختُزِلَت سوريا في صحراء سياسية.
لم أخرج من السجن حتى العام 1996، عندما كنت في الخامسة والثلاثين من عمري. وعندما عدت إلى الرِقة آنذاك، بعد ستة عشر عاما وراء القضبان، أذهلني ما فعله النظام ــ الذي كان عمره في السلطة 26 عاما في ذلك الوقت ــ بمدينتي. فلم أجد أي أثر للحياة السياسية أو الحوار العام، ولم أر شبابا يتحدثون عن الكتب التي يطالعونها أو الأفلام التي يشاهدونها. وقبل اعتقالي كان في الرقة ثلاث دور سينما. وعندما أطلق سراحي وجدت دارا واحدة، وكانت تستخدم في الأغلب لاستضافة حفلات الزفاف.كانت مدينة الرِقة تشهد انحدارا سريعا في ذلك الوقت، وعلى مدار العقد التالي تفاقم اليأس وتعمق في المدينة. وبحلول العام 2007، وصف عبد الله الدردري، نائب رئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية وكبير مهندسي الإصلاحات الاقتصادية (التي قاطعتها الحرب الأهلية في العام 2011)، مدينة الرِقة بأنها المدينة التي طواها النسيان لفترة طويلة. ثم عمل وصول داعش على التعجيل باستعمار حاضرتي العابرة.
من المؤسف والمحزن أن يظل شعور الحصار باقيا حتى بعد رحيل داعش. فالآن تسيطر على الرِقة قوات غربية ووكيلتها ميليشيا حزب الاتحاد الديمقراطي، التي تدين بالولاء لقادتها في تركيا. وكان من أوائل الأشياء التي فعلها محررونا/‏محتلونا الجدد من حزب الاتحاد الديمقراطي بعد إعلان النصر استعراض هويتهم الأجنبية بوضع صورة ضخمة لزعيم حزب العمال الكردستاني السجين عبد الله أوجلان. ولم يُعرَض أي رمز سوري إلى جانبه. والأسوأ من ذلك أنه بعد عملية عسكرية دمرت 90% من المدينة وقتلت نحو 1800 من سكانها، لم يبدأ حكام المدينة الجدد حتى في إزالة الجثث المدفونة تحت الركام والأنقاض. وبدلا من ذلك، مُنِع أولئك الذين أقاموا في المدينة لفترة طويلة من العودة إلى ديارهم.
من منظور أولئك الذين يحملون ذكريات بعيدة مثلنا، من المستحيل أن لا نعقد مقارنات مع الحكام السابقين ــ نظام الأسد وداعش. (المنظمة الفاشية التي تسميها وسائل الإعلام الغربية ISIS ــ وهو الاسم الذي يُضفي عليها صبغة دينية ــ يُطلَق عليها في العالَم الإسلامي في الأرجح اسم داعش، وهو الاسم الذي صاغه أخي خالد عندما كان في السجن معي في الثمانينيات).
الأمر المختلف هذه المرة هو المسيرة الحتمية نحو الصِراع العرقي. إذ أن ضحايا المدينة السابقين هم أحدث ضحاياها الآن أيضا. فالآن يعيش سكان المدينة المستغلون، المفقرون، الممثلون تمثيلا ناقصا، والمجردون من حقوقهم الإنسانية، تحت ظروف أشد سوءا، وأكثر تهميشا من أي وقت مضى. ويجري التعامل مع السكان المحليين كقبائل، وفقا للنموذج الاستعماري الحديث.
لم يكن «تحرير» الرِقة لنا. فقد أصبح سكانها أشد عُرضة للإقصاء والإبعاد من أي وقت مضى. وصارت نضالاتنا في الماضي من أجل الحرية والعدالة موضع تجاهل. ولا يزال السكان المحليون الذين قاتلوا ضد داعش، والذين اختفوا على أيدي ذلك التنظيم (بما في ذلك أخي فِراس، الذي اختُطِف في يوليو 2013)، مفقودين. وقد خدم تنظيم داعش بمثابة الوحش المثالي لكثير من المحتلين المستعمرين الحريصين على الظهور في هيئة أقل وحشية من حقيقتهم.

ناشط سوري