وداعاً للعولمة

مقالات رأي و تحليلات الأحد ١٩/نوفمبر/٢٠١٧ ٠٤:٢٥ ص
وداعاً للعولمة

د. فيصل القاسم

تبقى الأكاذيب الاستعمارية الكوميدية التي ضحكوا بها علينا صغيرة مقارنة بكذبة العولمة، فبينما كان المستعمر التقليدي يطلق كذبة لاستعمار بلد بعينه، أطلق الأمريكيون قبل سنوات كذبة بحجم القوة الأمريكية وجبروتها، وسموها «العولمة». ولم تكن تلك الكذبة الكبيرة سوى غطاء لـما يعرف بـ»الامبريالية العالمية». فقد وجد مخططو الاستعمار الأمريكي الجديد أن عليهم تغيير الكود الاستعماري كي لا يلقى مقاومة كونية، فكانت «العولمة» التي زينوها بكثير من الفوائد المزعومة. لقد أراد الأمريكيون باختراعهم الاستعماري الجديد أن يستعمروا العالم بأكمله، لا دولة بعينها. والطريف في الأمر أن مفردة «عولمة» لا تختلف في معناها في التعريف المعجمي الإنجليزي عن مفردة «شيوعية»، فالاثنتان تريدان بسط هيمنتهما على العالم أجمع، الأولى كانت عن طريق الاشتراكية، وفشلت، والثانية عن طريق الرأسمالية المتوحشة، وأيضاً فشلت.

قد يجادل البعض أن العالم استفاد كثيراً من مظاهر العولمة، حتى لو كانت ذات صبغة وأهداف أمريكية. ألم نستفد نحن العرب مثلاً من الإنترنت، والأقمار الصناعية والانفتاح العالمي، أو ما يسمى بالقرية الكونية؟ بالطبع استفدنا. لكن الهدف من العولمة لم يكن من أجل سواد عيوننا بالدرجة الأولى، ولا من أجل سواد عيون بقية العالم. لقد جاءت الإنترنت وثورة الاتصالات الدولية كبناء فوقي للنظام الرأسمالي الأمريكي الذي يريد أن يلتهم العالم. بعبارة أخرى، فإن الإنترنت مثلاً لم تكن لتظهر لولا أن ما أسماه كارل ماركس بـ «البناء التحتي» الأمريكي كان بحاجة لها ولغيرها من الفتوحات التكنولوجية والاتصالية الجديدة كي تدعم هيمنته على العالم. أي أن ثورة الاتصالات كانت ضرورية جداً لإنجاز العولمة التي ابتكرتها أمريكا لأغراضها التجارية والاقتصادية والمالية العابرة للحدود والقارات في المقام الأول.

وليس صحيحاً أبداً أن أمريكا تركت العالم يستفيد من عولمة الاتصالات دون رقيب أو حسيب. ففي اللحظة التي وجدت فيها واشنطن أنها مهددة من ثورة الاتصالات كانت تتصدى للمتجاوزين حدودهم بقوة، فقامت على سبيل المثال بمنع بعض القنوات العربية من دخول السوق الأمريكي تحت حجج وتبريرات واهية، ناهيك عن أنها منعت كل وسائل الإعلام الحرة من دخول العراق لتغطية مجازرها هناك، مع العلم أن العولمة تعني السموات المفتوحة للجميع، فلماذا أغلقتها؟ بعبارة أخرى، فإن أمريكا كانت تريد للعولمة أن تكون باتجاه واحد، فهي ترى أنه من حقها أن تنشر ثقافتها في كل أصقاع المعمورة، لكنها تستكثر على الآخرين أن يخترقوا أسوارها العالية جداً، فتمنعهم فوراً. وهل نسينا أن الغرب يستطيع أن يطرد أي قناة عربية عن الأقمار الصناعية الغربية عندما يرى فيها خطراً على ثقافته؟ حتى اقتصادياً لقد منعت أمريكا شركات من دخول السوق الأمريكي، مع العلم أن أسّ العولمة هو فتح الحدود لتدفق البضائع والخدمات بين دول العالم بحرية ويسر. لكن هنا أيضاً، فإن أمريكا ترى أن من حقها أن تغزو العالم اقتصادياً وعسكرياً وثقافياً، لكنها في الآن ذاته تمارس حمائية عزّ نظيرها مع الآخرين. بعبارة أخرى فهي تريد أن تحمي مجتمعها اقتصادياً.
ألا نسمع في بريطانيا هذه الأيام أيضاً دعوات لطرد العمال الأوروبيين والأجانب ليحل محلهم العمال البريطانيون الذين فقدوا وظائفهم بسبب فتح الحدود؟ هل يستقيم ذلك مع مبادئ العولمة المزعومة؟ أم إنه ينسفها من أساسها؟ ألا يتنافى أيضاً مع قوانين الاتحاد الأوروبي ناهيك عن العولمة العالمية؟ كل شيء أصبح الآن في مهب الريح حتى أوروبياً.
خدعنا الأمريكيون فقالوا: تعولموا، فصدقنا الكذبة، وتعولمنا. وعندما تضرر اقتصادهم ولم يعودوا قادرين على غزو العالم واستعماره اقتصادياً وثقافياً وعسكرياً، راحوا ينكمشون، ويتقوقعون على أنفسهم، فضربوا بذلك عولمتهم المزعومة في صميمها. لاحظوا كيف يحاول الرئيس الأمريكي ترامب منع دخول الكثير من الجنسيات إلى أمريكا بحجة محاربة الإرهاب. أليس ذلك نسفاً لأبسط أساسيات العولمة؟
أليس من حق الجميع الآن أن يعيد بناء الحدود وتشييد الأسوار لحماية الثقافات والاقتصاديات المحلية أسوة بسادة العولمة الذين انكشفت كذبتهم، وبانت عورتهم؟

إعلامي في قناة الجزيرة