الاستسلام لكوريا الشمالية

مقالات رأي و تحليلات الخميس ١٤/ديسمبر/٢٠١٧ ٠٥:٠٢ ص
الاستسلام لكوريا الشمالية

جوزيف س. ناي، الابن

اختبرت كوريا الشمالية مؤخراً صاروخها الباليستي (الذاتي الدفع) من طراز هواسونج-15، والذي سجل ارتفاعا بلغ 2780 ميلاً (4475 كيلومتراً) خلال رحلته التي دامت 53 دقيقة. وباستخدام مسار أكثر تسطيحا يُصبِح من الممكن تزويد نظام كيم جونج أون بالقدرة على إصابة الساحل الشرقي للولايات المتحدة. ورغم أنها لم تثبت بعد أنها أنتجت مركبة قادرة على تحمل الاحتكاك بالغلاف الجوي أثناء العودة إلى دخوله، فقد أعلنت كوريا الشمالية أنها أتقنت القدرة على توجيه ضربة نووية وأصبحت دولة نووية تامة النضج.

ومثله كمثل من سبقه من رؤساء الولايات المتحدة، قال دونالد ترامب إن هذه الحال لا تطاق. ما العمل الآن إذن؟
قبل الانتقال إلى السياسة، من المهم أن نتخلص من أساطير عديدة تتداخل مع التحليل الواضح. فأولا، ربما يكون كيم دكتاتورا شريرا، ولكنه ليس مجنونا أو انتحاريا. وحتى الآن، كان متفوقاً على الولايات المتحدة في هذه اللعبة العالية المخاطر، ولكنه يفهم أن تبادل الهجمات النووية مع الولايات المتحدة يعني نهاية النظام الذي يحاول الحفاظ عليه.
ثانياً، أدخلت الولايات المتحدة نفسها إلى فخ كيم من المبالغة في تقدير مدى القوة التي يستمدها من ترسانته الصاروخية. ذلك أن كوريا الشمالية كانت تمتلك الأسلحة النووية لأكثر من عشر سنوات؛ ويمكنها تسليم هذه الأسلحة إلى موانئ الولايات المتحدة على سواحلها الشرقية أو الغربية بالاستعانة بوسائل أخرى، مثل مخزن سفينة شحن.
ثالثا، في لعبة الخداع ومن يجبن أولا هذه، تزود الجغرافيا كوريا الشمالية بالقدرة على التصعيد المحلي. فبفضل الآلاف من مواسير المدفعية المخبأة في أنفاق بالقرب من الحدود، تستطيع كوريا الشمالية أن تهدد بإثارة الفوضى في سول، عاصمة كوريا الجنوبية القريبة، باستخدام أسلحة تقليدية. وقد أدركت الولايات المتحدة هذه الحقيقة في العام 1994 ــ قبل فترة طويلة من امتلاك كوريا الشمالية للأسلحة النووية ــ عندما خططت لشن ضربة وقائية استباقية لتدمير محطة إعادة معالجة البلوتونيوم في يونجبيون، لكي يتبين لها أن حلفاءها في كوريا الجنوبية (واليابان) استسلموا للخوف من خطر الانتقام التقليدي.
ومن الجانب السياسي، اقترحت الصين «التجميد في مقابل التجميد» كوسيلة للسيطرة على طموحات كوريا الشمالية النووية. وبموجب هذا الاقتراح، توقف كوريا الشمالية كل تجاربها النووية والصاروخية (وهو ما يمكن التحقق منه بسهولة)؛ في حين لا يعني هذا تراجع وضع كوريا الشمالية النووي، بل يفرض عليها إبطاء تطوير ترسانتها. وفي المقابل، تتعهد الولايات المتحدة بإيقاف المناورات العسكرية السنوية التي تديرها مع كوريا الجنوبية. وتحتفظ الولايات المتحدة بحق استئناف المناورات إذا انتهكت كوريا الشمالية حظر التجارب، أو صَدَّرَت أي مواد نووية.
ويرى بعض المراقبين أنها صفقة جيدة، ولكن هذا يعتمد على كيفية تقييم أهداف كيم. فإذا كان كل ما يريد هو الأمن، فبوسعنا أن نتركه لحاله، وربما نوقع على معـاهدة ســـلام، ونخفف العقوبات، ونسمح للنمو الاقتصادي بتغيير النظام بمرور الوقت، كما حدث في الصين.
بيد أن كوريا الشمالية في عهد أسرة كيم ليست قوة الوضع الراهن. فمنذ العام 1945، كانت تتسم بالشذوذ: فهي دكتاتورية شيوعية وراثية تستند شرعيتها إلى زعمها بأنها في طليعة القومية الكورية. وحتى وقتنا هذا، كانت متأخرة في المنافسة الاقتصادية مع كوريا الجنــوبية، ولكنها تأمل أن يمكنها وضــعها النووي من تغيير التوازن.
وكما حذر سونج يون لي من جامعة تافتس مؤخراً، «يمثل تهديد الولايات المتحدة في نظر كوريا الشمالية وسيلة غير قابلة للتفاوض لعزل سيول وممارسة الهيمنة عليها. وهكذا يسعى نظام كيم جونج أون إلى ضمان بقائه في الأمد البعيد».
وإذا كان إضعاف العلاقات بين الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية هدفاً أساسياً لاستراتيجية كيم، فإن اقتراح «التجميد في مقابل التجميد» الذي تقدمت به الصين يصب في مصلحة كيم. وبدلا من الحد من المخاطر، ربما يؤدي هذا إلى تشجيع الشمال على العودة إلى ممارسة الضغوط التقليدية الخطيرة على كوريا الجنوبية، كما حدث في العام 2010، عندما أغرقت كوريا الشمالية سفينة حربية لكوريا الجنوبية، فقتلت 46 جندياً بحاراً، وقصفت جزر كوريا الجنوبية.
الواقع أن خيارات السياسة الأميركية محدودة. فأحدها يتلخص في استخدام القوة. وقد نُقِل عن الجنرال ه. ر. ماكماستر، مستشار الأمن القومي في حكومة ترامب، قوله في مناسبات عديدة إن الحرب الوقائية ربما تكون ضرورية إذا فشلت الجهود الدبلوماسية. ولكن حتى لو كانت هذه المحاولة مصممة كضربة محدودة، فهل تظل محاولات تغيير النظام أو إسقاط الصواريخ محدودة؟ إذا لم يكن الأمر كذلك، فإن الخسائر في الأرواح والإصابات قد تتراوح من عشرات الآلاف إلى أعداد أكبر كثيرا.
وتظل العقوبات تمثل خياراً متاحاً، ولكنها لم تنجح حتى الآن في توليد القدر الكافي من الضغوط لحمل نظام كيم على التخلي عما يعتبره أصلاً استراتيجياً رئيسياً. كما تمثل الدبلوماسية الصينية والعقوبات الصينية أهمية بالغة أيضا، ولكن الصين كانت متساهلة حتى الآن. فهي لم تقطع الإمدادات من الغذاء والوقود. ورغم أن الصين لا تحب كيم فإنها لا تريد الفوضى ــ أو الأميركيين ــ على حدودها.
وربما تكون الحزمة المحتملة شيئا أشبه بما أسمى في أيام الحرب الباردة «جريت» (GRIT)، أو «الخفض التدريجي للتوتر الدولي»: حيث تطمئن الولايات المتحدة الصين إلى أهدافها المحدودة وتوافق على تنسيق تحركاتها مع الصين. وتتوقف المسيرات إلى نهر يالو من ذلك النوع الذي أشعل شرارة تدخل الصين في الحرب الكورية. وفي المقابل، تستخدم الصين ضغوطها الاقتصادية ودبلوماسيتها لتجميد التهديد المباشر الذي تفرضه الاختبارات التي تجريها كوريا الشمالية، ولكنها لا تصر على تجميد القوات الأمريكية.
ويتوقف الخفض المحتمل لحجم التدريبات الأميركية في المستقبل على سلوك كوريا الشمالية في التعامل مع كوريا الجنوبية. وقد تعرض الولايات المتحدة التفاوض على معاهدة سلام بعد أن تقبل كوريا الشمالية الهدنة وتخفيف التوترات مع كوريا الجنوبية. كما قد تقبل الولايات المتحدة والصين وضع كوريا الشمالية النووي بحكم الأمر الواقع، على أن يؤكدا بشكل مشترك على هدفهما البعيد الأمد المتمثل في شبه جزيرة خالية من الأسلحة النووية. وتوافق كوريا الشمالية على وقف الاختبارات وأي صادرات أخرى من المواد النووية. وتهدد الصين بفرض عقوبات على المواد الغذائية والوقود إذا لجأت كوريا الشمالية إلى الغش أو انتهاك الاتفاق.
الواقع أن آفاق هذه الحزمة التي تتمحور حول الصين ليست عالية؛ ولكن فشلها لا ينبغي أن يدفع الولايات المتحدة إلى الذعر. فإذا كان بوسعها أن تردع الاتحاد السوفييتي الأقوى كثيراً عن الاستيلاء على برلين الغربية المعزولة طوال ثلاثة عقود من الزمن، فإنها قادرة على ردع كوريا الشمالية. وينبغي للولايات المتحدة أن تعمل على تعزيز قدراتها الرادعة والدفاعية من خلال تحالفها مع كوريا الجنوبية واليابان. ووجود ما يقرب من 50 ألف جندي أميركي في اليابان، ونحو 28 ألف جندي في كوريا الجنوبية، من شأنه أن يجعل الردع الممتد جديرا بالثقة. فلن يتمكن كيم من قتل الكوريين الجنوبيين أو اليابانيين دون قتل الأميركيين، وهذا، كما يعلم بكل تأكيد، يعني نهاية نظامه.

أستاذ في جامعة هارفارد. وهو مؤلف كتاب «مستقبل القوة».