البنك الأوروبي غير المسؤول

مقالات رأي و تحليلات الأربعاء ٢١/فبراير/٢٠١٨ ٢٣:٠٦ م
البنك الأوروبي غير المسؤول

جورغن ستارك

كشف «الانهيار السريع» الذي شهده مؤشر داو جونز الصناعي مؤخرا، حيث هبط بما يقرب من 1600 نقطة، إلى أي مدى أصبحت الأسواق المالية والقوى الاقتصادية مدمنة على السياسة النقدية التوسعية. فقد أوجدت أسعار الفائدة المنخفضة وبرامج التيسير الكمي التي دامت لفترة طويلة الحوافز التي دفعت المستثمرين إلى خوض مخاطر غير محسوبة على النحو الوافي. وكلما طال أمد الحفاظ على هذه السياسات كلما تعاظم التهديد الذي تشكله للاستقرار المالي العالمي.

الحقيقة هي أن السياسة النقدية المفرطة التساهل لم تعد ملائمة منذ زمن بعيد. وقد شهد الاقتصاد العالمي ــ وخاصة العالم المتقدم ــ فترة من التعافي المتزايد القوة. ووفقا لآخر تحديث صادر عن صندوق النقد الدولي للآفاق الاقتصادية العالمية، فسوف يستمر النمو الاقتصادي خلال الأرباع السنوية القليلة المقبلة، وخاصة في الولايات المتحدة ومنطقة اليورو.

ومع ذلك، تخشى المؤسسات الدولية، بما في ذلك صندوق النقد الدولي، من حدوث تصحيحات السوق المفاجئة التي قد تنشأ بطبيعة الحال عن التغيرات في توقعات أسعار التضخم أو أسعار الفائدة، وتزعم أن إحكام السياسة النقدية لابد أن يجري ببطء شيد. ولهذا، تواصل البنوك المركزية تأجيل تطبيع السياسة النقدية، الأمر الذي يؤدي إلى ارتفاع أسعار الأصول، وإنتاج تشوهات شديدة في السوق تجعل من هذه التصحيحات ضرورة حتمية.
من المؤكد أن بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي ابتعد عن التوسع النقدي منذ أواخر العام 2013، عندما بدأ تدريجياً في تقليص ثم وقف شراء السندات في نهاية المطاف، وتقليص ميزانيته العمومية. ومنذ نهاية العام 2015، جرى رفع سعر الفائدة الفيدرالية القياسية إلى %1.5.
لكن سياسة بنك الاحتياطي الفيدرالي لا تزال بعيدة عن وضعها الطبيعي. ونظراً للمرحلة المتقدمة من هذه الدورة الاقتصادية، وتوقعات النمو الاسمي بنسبة تتجاوز %4، وانخفاض معدل البطالة ــ ناهيك عن خطر فرط النشاط ــ فإن تحركات بنك الاحتياطي الفيدرالي كانت متأخرة عن المنحنى.
ولم تكن البنوك المركزية في اقتصادات متقدمة أخرى أفضل حالاً، فهي لا تزال عالقة في وضع الأزمة الشديدة. ولم يقدم بنك اليابان أو البنك المركزي الأوروبي أي إشارة إلى استعداده لإحكام السياسة النقدية، حتى برغم أن الظروف الاقتصادية اليوم تختلف تمام الاختلاف عن تلك التي سادت خلال الأزمة والركود المزدوج الذي تلاها في منطقة اليورو.
يدافع البنك المركزي الأوروبي بشكل خاص عن سياسة أسعار الفائدة المنخفضة من خلال الاستشهاد بمخاطر الانكماش المتصورة أو انخفاض التضخم عن المستوى المستهدف. لكن الحقيقة هي أن خطر الانكماش «الخبيث» ــ الدوامة الهابطة الذاتية التعزيز في الأسعار، والأجور، والأداء الاقتصادي ــ لم يكن له وجود قَط في منطقة اليورو ككل. وكان من الواضح منذ العام 2014 أن الانخفاض الحاد في التضخم يرتبط بانحدار أسعار الطاقة والمواد الخام.
باختصار، ما كان ينبغي للبنك المركزي الأوروبي أن ينظر إلى التضخم المنخفض باعتباره حالة دائمة أو حتى طويلة الأمد وتتطلب استجابة قوية من جانب السياسة النقدية. والمشكلة أن المسؤولين في البنك المركزي الأوروبي أصبحوا يركزون بشكل مفرط على ضمان استقرار الأسعار من خلال تحقيق هدف التضخم في الأمد القريب، والذي يعرف بشكل عام بأنه «أقل من، ولكن أقرب إلى، %2»، أما الهدف المحدد فهو %1.9.
ولا يتفق هذا مع نوايا مجلس محافظي البنك المركزي الأوروبي، كما أعلن بوضوح في العام 2003، بعد تقييم السياسة النقدية في السنوات الأربع الفائتة. في ذلك الوقت، أَكَّد البنك المركزي الأوروبي على تعريف استقرار الأسعار الذي تبناه في العام 1998، ولكنه أوضح أنه يستهدف الإبقاء على هدف التضخم في الأمد المتوسط، في حين اعترف بأن البنك المركزي لا يمكنه السيطرة على التضخم بالقدر الكافي من الدقة لتثبيت معدل بعينه.
كما أن سياسة البنك المركزي الأوروبي لا تتماشى مع الواقع الاقتصادي: إذ تشهد منطقة اليورو، مثلها كمثل بقية الاقتصاد العالمي، تعافياً قوياً. ومع ذلك، ربما يرى البنك المركزي الأوروبي في الاضطرابات الأخيرة في سوق البورصة تأكيدا على ضرورة الحفاظ على سياساته الحالية.
ورغم أن مجلس المحافظين يبدو مقتنعا بأن السياسات التوسعية تظل بالغة الأهمية لدعم الناتج المحلي الإجمالي ونمو تشغيل العمالة، والسيطرة على التضخم، فإن هذا يبدو مستبعدا. وبقدر ما يمكننا قياس تأثير هذه السياسات على التعافي بشكل جدير بالثقة، فهو متواضع في الأرجح ــ ولا يستحق بكل تأكيد شراء أصول بقيمة 2.3 تريليون يورو (2.8 تريليون دولار) منذ أبريل 2015، ناهيك عن العواقب الأخرى المترتبة على الإبقاء على سعر الفائدة صِفر أو أسعار الفائدة السلبية.
تتلخص إحدى هذه العواقب في فقدان سعر الفائدة الذي يحدده البنك المركزي الأوروبي لوظيفته التوجيهية. وتتمثل أخرى في أن المخاطر لم تعد تثمن على النحو اللائق، مما أدى إلى سوء تخصيص الموارد وإصابة البنوك والشركات بالشلل، والتي اضطرت إلى تأخير عملية تقليص الديون. من العواقب الملحوظة أيضا أن أسواق السندات أصبحت مشوهة تماماً، كما جرى تأجيل ضبط الأوضاع المالية في الدول المثقلة بالديون.
وعلى هذا فإن الفوائد المترتبة على سياسة البنك المركزي الأوروبي تصبح محل شك. وبالتالي، نستطيع أن نجزم ببساطة بأن سياسة البنك المركزي الأوروبي الحالية غير مسؤولة، كما ينطبق نفس الوصف على الافتقار الكامل لأي خطة لتغيير هذه السياسة.
في هذا الصدد، يتبع مجلس محافظي البنك المركزي الأوروبي، سواء عن وعي أو دون وعي، النصيحة التي أطلقها في العام 1998 رجل الاقتصاد الحائز على جائزة نوبل، بول كروجمان، بأن بنك اليابان «يَعِد بمصداقية بأن يكون غير مسؤول» عندما تكون أسعار الفائدة الاسمية عند مستوى الصِفر بالفعل والسياسة النقدية عُرضة لخطر عدم الفعالية. وأعلن كروجمان أن البنك المركزي لابد أن يعمل على تحفيز التضخم من خلال التوسع النقدي المتواصل، من أجل خفض أسعار الفائدة الحقيقية.
قبل بضع سنوات، كرر كروجمان هذه التوصية، عندما قام، جنبا إلى جنب مع وزير خزانة الولايات المتحدة الأسبق لورنس سامرز، بإحياء نظرية «الركود المزمن». لكن مناقشة هذه النظرية انتهت الآن ــ ولسبب وجيه. وقد آن أيضا أوان إنهاء السياسات التوسعية غير المسؤولة التي ينتهجها البنك المركزي الأوروبي.
اليوم، أصبحت السياسة النقدية تابعة للسياسة المالية، حيث تواجه البنوك المركزية ضغوطا سياسية متزايدة الشدة لحملها على الإبقاء على أسعار الفائدة منخفضة بشكل مصطنع. وكما تُظهِر الاضطرابات الأخيرة في سوق البورصة، فإن هذا الاتجاه يزيد بشكل كبير من خطر عدم الاستقرار المالي. وعندما يحدث المزيد من تصحيحات السوق ــ الأكثر شدة ــ والتي ربما تؤثر على الاقتصاد الحقيقي، فما هي الأدوات التي قد تتبقى تحت تصرف البنوك المركزية؟

عضو سابق في المجلس

التنفيذي للبنك المركزي الأوروبي.