صفقة في جنوب إفريقيا

مقالات رأي و تحليلات الثلاثاء ٢٠/مارس/٢٠١٨ ٠٢:٢٤ ص
صفقة في جنوب إفريقيا

بريان ليفي

مرّ شهر منذ حل سيريل رامافوسا، رئيس حزب المؤتمر الوطني الإفريقي، محل جاكوب زوما رئيسا لدولة جنوب إفريقيا. والواقع أن رامافوسا، الذي حظي برعاية نيلسون مانديلا ذات يوم، أعاد إلى البلاد نشاطها وحيويتها بفضل كفاءته والتزامه بالشفافية. ولهذا السبب وحده، أصبح لدى أهل جنوب إفريقيا سبب للتفاؤل. ولكن في حين سلكت جنوب إفريقيا الطريق الأكثر وعورة -بمخالفة الاتجاه العالمي نحو الشعبوية والاستبداد- تظل الدولة عند مفترق طرق. فلم يفعل رحيل زوما شيئا يُذكَر لمعالجة اختلالات التوازن التي تقوّض الاقتصاد. وإذا كان لجنوب إفريقيا أن تجتاز الأزمة بسلام حقا، فلا بد من معالجة التفاوت بين الناس، ويتعيّن على غالبية مواطني البلاد أن يثقوا في قدرتهم على تحقيق مستقبل أكثر إشراقا. في جنوب إفريقيا، يتداخل الفقر والتفاوت والنزعة العِرقية، ولا يصب هذا في صالح غالبية سكان البلاد البالغ عددهم 57 مليون نسمة. ومع بلوغ نصيب الفرد في الدخل نحو 13 ألف دولار العام الفائت (قياسا على تعادل القوة الشرائية)، تُعَد جنوب إفريقيا دولة متوسطة الدخل مثل البرازيل والمكسيك وتايلاند. لكن الرقم الرئيسي يمثّل مستوى من التفاوت يتسم بالحدة بشكل خاص.

على سبيل المثال، في العام 2010، كان أغنى 10% من سكان جنوب إفريقيا يمثلون 53% من إجمالي الإنفاق الاستهلاكي. وهذا يشبه الحال في البرازيل في العام 2000، عندما كان أغنى 10% من البرازيليين يمثلون 47% من إجمالي الإنفاق الأسري. في ذلك الوقت، كان هذا كافيا لجعل البرازيل واحدة من الدول متوسطة الدخل الأكثر تفاوتا على مستوى العالَم. وفي حين ضيّقت البرازيل فجوة الدخل قليلا منذ ذلك الحين -وكذا فعلت المكسيك وتايلاند- فإن جنوب إفريقيا لم تفعل.

في غياب طبقة متوسطة قوية، كان أغلب مواطني جنوب إفريقيا خلال ولاية زوما إما أغنياء أو فقراء. وفي العام 2010، كان أفقر 40% يمثلون 6.9% فقط من إجمالي إنفاق البلاد. وفي العام 2016، كان نحو 17 مليون شخص في احتياج إلى مساعدات حكومية لتغطية نفقاتهم. وفي حين يكسب مواطنو جنوب إفريقيا في المتوسط أربعة أمثال ما يكسبه مواطنو كينيا من ذوي الدخل المنخفض، فإن هذا لا يمثّل سوى 20% مما يكسبه المواطن الأمريكي المتوسط.
وقد خلّف التفاوت تأثيرا ضارا على المؤسسات العامة والخاصة في جنوب إفريقيا، وأثّر هذا بدوره بشكل سلبي على كيفية توليد الثروة. ففور نهاية نظام الفصل العنصري، فتحت إزالة ممارسات التوظيف التمييزية طرقا جديدة لتحقيق الرخاء للعديد من مواطني جنوب إفريقيا من ذوي البشرة السوداء. فتولّى بعض قادة حزب المؤتمر الوطني الإفريقي وظائف في شركات، في حين استفاد مواطنون آخرون من القوانين التي كان المقصود منها تشجيع التمكين الاقتصادي للسود.
ولكن في عصر زوما، أدّى تركز الثروة إلى ممارسات توظيف وتعيينات سياسية قائمة على المحسوبية (نظرا لارتفاع رواتب موظفي الحكومة)، وغير ذلك من أشكال الفساد. ونشأت طبقة أرستقراطية عمالية إقصائية، مما أدّى إلى تعميق شبكة المحسوبية داخل القطاع العام. وباتت قدرة الحكومة على توفير الخدمات ضعيفة. وعلى هذا ففي حين ظلت أحوال الثلث الأعلى دخلا من السكان طيبة، فإن حِس الاستطاعة الذي راود الغالبية العظمى من مواطني جنوب إفريقيا عند بزوغ فجر الديمقراطية بعد الفصل العنصري بدأ يتلاشى.
من المؤكد أن الدول ظلت تتصارع مع التفاوت بين الناس منذ ولِدَت الثروة. وفي العام 1973، شبَّه رجل الاقتصاد ألبرت هيرشمان كفاح أمريكا اللاتينية ضد التفاوت بين الناس بمجموعة من السائقين العالقين في ازدحام مروري. يقول هيرشمان: «عندما تبدأ حارة من السيارات تتحرّك، يشعر الناس في الحارة الأخرى بتحسن كبير؛ لأنهم يتوقعون أن يتحرّكوا قريبا أيضا. وعلى نحو مماثل، يتسامح الفقراء في اقتصاد نام مع التفاوت لبعض القوت؛ لأنهم يعتقدون أن الفوارق ستضيق مرة أخرى في نهاية المطاف. وما دام الناس واثقين من انتهاء الاختناق المروري في نهاية المطاف -وأن مستقبلا أفضل ينتظرهم- فإنهم يتحمّلون الجمود المؤقت. وإذا لم يتحرّك المرور أبدا، فمن المحتم أن تقع المتاعب، وربما الكارثة».
كان وعد حزب المؤتمر الوطني الإفريقي بحياة أفضل للجميع بعد نهاية نظام الفصل العنصري بمثابة المكافئ الاقتصادي للتخفيف الظاهري للازدحام المروري. ففي نهاية المطاف، فقد مواطنو جنوب إفريقيا ثقتهم في الوعد المتكرر بقدوم المزيد من الفرص. وكان فساد إدارة زوما وسوء إدارتها للاقتصاد من الأسباب التي أدّت إلى تعميق شعور الناس بخيبة الأمل.
من منظور رامافوسا إذن، تمثل استعادة السرد الاقتصادي السبيل الوحيد لإعادة الأمل إلى أغلبية سكان جنوب إفريقيا. فجنوب إفريقيا تحتاج إلى «صفقة جديدة» شاملة للقرن الحادي والعشرين. ولإعادة تنشيط الحراك الاجتماعي، تحتاج جنوب إفريقيا أيضا إلى جرعة من الدينامية الاقتصادية، تدعمها شبكة أمان اجتماعي قوية.
لن يكون تنفيذ مثل هذه الأجندة سهلا. لكن مؤسسات جنوب إفريقيا قادرة على الاضطلاع بهمة التغلّب على المقاومة من قِبَل النخب. وكما لاحظ مؤخرا باتريك جاسبارد، سفير الولايات المتحدة السابق إلى جنوب إفريقيا، فإن البلاد تتمتع بنظام قوي من الضوابط والتوازنات، والذي يمكنه إذا تم توجيهه على النحو الصحيح التفوّق على الفساد وتسليم الإصلاحات المطلوبة. وفي ظل مجتمع مدني قوي، ووسائط إعلام حرة، ومعارضة سياسية قوية، وسلطة قضائية مستقلة، تصبح جنوب إفريقيا في وضع جيّد يسمح لها بالتحوّل.
الواقع أن التحديات التي ورثها رامافوسا -اتساع فجوة التفاوت بين الناس، وفجوة الأجور المتنامية، والنمو الذي لا يولّد الوظائف- ليست فريدة، حتى وإن كانت شديدة. لكن زعيم جنوب إفريقيا الجديد يتمتع بميزة: فالبلاد متلهفة للتغيير. وإذا استمر الركود الاقتصادي، وإذا ظلت التحديات المرتبطة بتوسيع نطاق الشمول الاقتصادي قائمة دون أن يتصدى لها أحد. فقد تتحوّل نظرية هيرشمان حول الخراب السياسي إلى واقع ملموس. ولكن إذا نجح رامافوسا في إيجاد سرد جديد يستطيع أن يتبنّاه كل أبناء جنوب إفريقيا، فقد يُصبِح الطريق إلى الأمام واضحا قبل أن يسعى الناخبون إلى طريق بديل أشد خطورة.

المدير الأكاديمي لكلية الدراسات العليا لسياسات وممارسات التنمية في جامعة كيب تاون