«عُمان».. الرائد الذي لا يكذب أهله

مقالات رأي و تحليلات الخميس ٢٢/مارس/٢٠١٨ ٠٣:٤٩ ص
«عُمان».. الرائد الذي لا يكذب أهله

علي ناجي الرعوي

كان العرب قديما يُطلقون على من يتقدّم قافلة قومه ويدلّهم على الطريق الآمن الذي يسلكونه ويبصّرهم بأمورهم وكل ما يعود عليهم بالخير والصلاح بـ«الرائد الذي لا يكذب أهله» فهو مصدَّق في كل ما يتّخذه أو يستشرفه من الوقائع لكونه الذي ارتبط مصيره بمصيرهم، أما في العصر الحديث فقد تراجعت هذه السمة العربية بتراجع مفهوم وحدة المصير وطغيان التفكير المصلحي الضيّق على التفكير الجمعي الأمر الذي تسبّب في تحوّل العرب إلى مجموعة دويلات قطرية لكل منها مسلكها ورؤاها.

يمكن القول ومن دون أي تحفظ إنّ سلطنة عُمان، وفي إطار مشروع النهضة الذي وضع مداميكه جلالة السلطان قابوس أوائل عقد السبعينيات من القرن العشرين، قد حرصت على انتهاج سياسة عقلانية متوازنة تليق بعُمان الجديدة وإرثها التاريخي والحضاري وبرهنت من خلال هذه السياسة المنضبطة، التي تقوم على تعظيم قيم السلام والحوار وعدم التدخّل في الشؤون الداخلية للغير، على أنها اتّخذت المسار الصحيح الذي وإن بدا مشروعا وطنيا خاصا بها فلم يكن هناك ما يعيق من الاستفادة من روحية هذا المشروع الوطني على المستوى القومي لتحويل مناطق الضعف العربية إلى مناطق قوة على غرار ما قامت به أوروبا، فلو كل الدول العربية انتهجت نفس السياسة العُمانية التي تنبذ العنف وتدعو إلى السلام ومعالجة النزاعات والخلافات عبر الحوار لتجنّبت هذه الدول كل التداعيات والأحداث الدراماتيكية.

لا شك أن سلطنة عُمان بذلك النهج المتوازن قد وضعت أقدامها في الاتجاه السليم حيث ابتعدت عن الاستقطاب وسياسات المحاور وكل أشكال الارتهان الخارجي مما قفز بها إلى الواجهة كرائدة وصانعة لمشروع النهوض للدولة الوطنية العربية القادرة على تحقيق أهدافها ومنها أهداف الأمن والاستقرار والسلام التي تتعزز فيها فرص النماء والتطوّر والحكامة السياسية الراشدة، إلا أنه وفيما يفترض أن هذا المشروع يعدّ مكسبا لكل العرب فقد وجدنا أنه من قوبل برضا البعض وغضب البعض الآخر مع أن كليهما لا يختلفان على أن حالة الشطط التي سيطرت وما زالت على الواقع العربي لم نجنِ منها غير مبررات النواح على ما أصابنا من الانكسارات والخسارات والتي صار معها هذا الواقع أشبه بملاكم منهك يتلقّى الضربات الموجعة والمؤلمة قبل أن يسقط لا محالة. كان من الجيّد أن يدرك العرب بعد سنوات من التلكؤ دلالات السياسة العُمانية في تعاطيها مع القضايا الخلافية وذلك بعد تجاربهم المريرة والتي أثبتت على أن الحروب لا تحل خلافا ولا تقدّم صنيعا إيجابيا سواء لمن ينتصر فيها أو ينهزم، كما أنها لا تنتج نقطة بيضاء يمكن الاعتداد بها، مع ذلك ظل البعض يتجاهل هذه الحقيقة إما لمجرد المكابرة أو بدافع العناد مع أن لا أحد من هؤلاء مطالب بالاعتراف أو الإقرار بصوابية المعايير العُمانية في معالجة الأزمات وأن هذه المعايير هي الأكثر نضجا وتعقُّلا من غيرها فهي من تكتسي خصوصيتها بالغة الأهمية وعميقة الأثر على الضمير الإنساني من روح الاعتدال الذي تظهر فيه فكرة الحرب كفكرة مدمّرة ولا صلة لها بالمنطق الحصيف أو حتى النظرة المتعمّقة في معادلتي السلم والحرب.من يفتح عينيه على كتاب السياسة العُمانية فإنه يكتشف في اللحظة الأولى أنه أمام دولة خليجية هادئة ومسالمة لا تستدعي الفضول للبحث عن خباياها لكن حينما يتعمّق في واقعها وفعلها سيلحظ أن بصماتها الواضحة في احتواء الأزمات وتقريب المتخاصمين إنما هي التي تنافس نفسها كوسيط خير لاحتواء الخلافات ومفاعيل الصراعات ليس فقط على صعيد المنطقة وحسب ولكن إلى ما هو أبعد من ذلك كما حصل في وساطتها بين الغريمين اللدودين الولايات المتحدة وإيران، وهنا فقد كان للحنكة دورها ولبُعد النظر موقعه ليأتي النتاج الطبيعي لذلك سياسة خارجية ناجحة تجسّدت في مواقف سديدة من قضايا وأزمات إقليمية ودولية كان التدخّل فيها يُوصف من قِبل بعض وسائل الإعلام والكتّاب العرب بـ«المغامرة السياسية»، لكن أثبتت الأيام أن الفعل العُماني يجسّد موقف قيادته وعمق رؤيتها ونبل مقاصدها وأنها التي لا تبحث من وراء هذا الدور عن مكسب سياسي أو مكانة تتربع عليها وإنما هي التي تنطلق من مبدأ أخلاقي وإنساني هدفه تكريس السلام وحفظ الأمن ولجم الحروب حفظا للدماء وصونا لكرمة الإنسان.
وبين هذا وذاك، فقد أكّدت عُمان للأشقاء قبل الأصدقاء أنها من التحمت بمحيطها العربي بصدق وليست بحاجة لشهادة على ذلك بل إنها من حمت كل الأشقاء من أن يطعنوا من الخلف في أي موقع كانوا ولم تكن يوما علاقاتها مع الآخرين على حساب علاقاتها الراسخة والثابتة مع الأشقاء العرب بصرف النظر عن تقديرات هؤلاء الأشقاء، وبذلك كانت وما زالت الرائد الذي لا يكذب أهله.

كاتب يمني