أغـداً ألقـاك؟

مقالات رأي و تحليلات الأحد ٢٢/أبريل/٢٠١٨ ٠٤:٣٩ ص
أغـداً ألقـاك؟

أحمد المرشد

تنتابني في بعض الأحيان أفكاراً اعتقد أنها تدور في خلد الكثيرين، وقد تأكدت من هذا بسؤال مقربين وأصدقاء، ليس فقط في فئات عمرية متقاربة ولكن هذه الأفكار تراود كافة الأعمار، ومن بين هذه الأفكار التي تراودني من حين لآخر، حنيني الى الماضي، الى أيام الطفولة والمرح، الى الأمس، الى ما نطلق عليه تجاوزا «الزمن الجميل»، باعتبار أننا لا نعيش زمنا جميلا، أو هكذا نقول لبعض عندما نقابل صديقا من الصغر أو من أيام الدراسة أو بدايات عملنا المهني. وبمجرد أن يراودني هذا الحنين، سرعان ما أسأل نفسي: هل بمقدورنا تغيير مسار حياتنا؟، أو حتى شخصياتنا، وهل نستطيع أن نغير تفكيرنا؟، فالأسئلة ما أكثرها، ولكن هل فعلا ممكن نعيش حتى في الماضي القريب وليس البعيد كما كنا أطفالا وصغارا وشبانا وصولا لبدايات الرجولة وحتى تحمل كافة المسؤوليات؟.

أعتقد أن الكثير من غير أصدقائي يسألون أنفسهم تلك الأسئلة، بل وفي كل البلدان فقيرة كانت أم غنية، فالحنين الى الماضي لا يرتبط بمكان مثلما لا يرتبط بزمان. والمواقف التي تعيدني الى الماضي كثيرة ومتعددة، ولا تمر أمام عيني مرور الكرام ولكنها تأتي لتستمر، خاصة إذا التقيت صديقاَ لم أره منذ فترة، أو تذكرت شخصاً التقيته في مكان ما وتأثرت به سلبا أو إيجابا، أو كلما تذكرت نجاحات حققتها في حياتي، أو حتى لحظات فشل مررت بها، أو جلسة مرح مع مقربين أو العائلة، فكل ما هو ماض يعود لنا في شكل ذكريات، ولكننا نحن لهذا الماضي..والسؤال: هل الحنين الى الأمس أفضل؟..أم نعيش حياتنا اليوم باعتباره الحاضر الذي لا مناص منه؟، هذا إذا سلمنا بأن الماضي أو الزمن الجميل كما نحب أن نسميه لن يعود كما كان، لأن هذا الزمن ارتبط بأسرة وجيران وأناس وأصدقاء، ناهيك عن الأمكنة التي عشنا بها ومررنا بها، فهي لن تعود، فالمكان مثل الزمان لا يعود أيضا، لأن الأمكنة تتغير وتتبدل، بدليل إذا عدنا الى مدننا ونحن صغار، فلن نجدها كما هي، فالزمن يغيرها ربما الى الأجمل لتكون أكثر تحضرا، ولكنها لا تعود نفس المكان الذي نحن إليه.

وعلى فرض إن عاد بي الزمن للوراء، فهل استطيع الاستمتاع به كما كان حالي زمان، اعتقد أن الجواب «لا»، فالمسار سيختلف بلا شك، ولكن علينا في النهاية أن نسلم بالقدر والمكتوب، فكل ما أخذناه من قرارات سواء خاطئة أو صائبة، وكل أفراحنا ونجاحاتنا أو حتي أحزاننا كان لها الفضل في تكوين وتشكيل شخصياتنا بما نحن عليه الآن.
ولكن رغم يقيني هذا، لا يزال يراودني الحنين الى الماضي ولا أدري لماذا هذا الإحساس يتملكني على فترات متقاربة؟..هل بسبب ما نعيشه من واقع يسير بصورة متسارعة لم نعتدها من قبل أوكما اعتدنا سرعة الحياة في الماضي. والأهم من كل هذا، ماذا سنفعل إذا رجعنا حقا الى الأمس أو عاد بنا الزمن قليلا إلى الوراء؟.
هذا التساؤل وجهته لأصدقاء كثيرين، فماذا كان جوابهم؟..معظمهم تمني لو يعود به الزمن للوراء حتي وإن كانوا لا يعرفون ماذا سيفعلون، ولكنه الحنين إلى زمان وأيام وليالي زمان وألفة زمان ومحبة وصداقة زمان وجيران زمان، هو الذي يشدنا الى أن نتعلق بكل هذه الصفات الجميلة، نحن لا نفتقدها في زمننا الراهن، ولكن نحب أن نعيشها كما عشناها منذ ذاك الزمن. فالقلوب تهفو للماضي، ربما لبساطة الحياة التي كانت سمة لهذا الزمن الذي نصفه عادة بـ» الزمن الجميل» وهو ما يعني أن حياتنا تغيرت، لا نقول للأسوأ أو للأفضل، ولكنها تغيرت في الواقع، وتغيرت معا الأحوال والعلاقات الإنسانية و الاجتماعية، ولنتخيل معاً معدل الرفاهية الذي نعيشه في وقتنا الراهن، لم يجعلنا ننسى حياتنا القديمة التي ربما خلت من الرفاهية التي يعيشها أبناؤنا وأحفادنا، فارتفاع مستوي الرفاهية اليوم لم يدفعنا لنسيان أمنياتنا بالعودة الى الأمس. فما أحلى العودة لذكريات الطفولة، الى البراءة، الى حضن الأم، الى ألعابنا البسيطة التي كنا نصنعها بأيدينا لتبقى معنا لا نفارقها ولا نكسرها ونشتري غيرها، فألعابنا كانت جزءا منا ومن تشكيلنا فنحن ابتكرناها وفقا لبيئتنا. ومع كل هذا، ـراجع نفسي، فبراءة الأطفال أراها في عيون أحفادي، وألعابهم أنا الذي استمتع بها طالما استمتعوا هم بها، ولعل عودتي عن أفكاري، سببها هي ضرورة أن نساير الحياة حتى نتحرر من أن نظل أسيري الماضي الجميل رغم بساطته. وأعود لأحدث نفسي كلما راودني الشعور بالعودة الى «الزمن الجميل» وأحاول أقنعها - أي نفسي - بأنه ما قيمة هذا الماضي وعودتي له وحدي بمفردي، وكما يقول المثل الشعبي «الجنة بلا ناس ما تنداس» أو «ما تنعاش»، فلو عدت الى زماني الجميل لن يكون جميلا إلا إذا عادت معي أسرتي وأهلي وعشيرتي وأصدقائي وجيراني وكل الأحباب، وعادت معه كل الصفات الجميلة التي تحلي به الماضي من حب ووفاء وألفة ومحبة وكرم وإيثار للنفس، فالحياة بشر، وبدونهم لا توجد حياة ولا نستطيع أن نحياها.
ربما داهمني الوقت وكادت المساحة المخصصة للكتابة تقترب من نهايتها، ولكنني اختم بأنه ليس مطلوب منا أن نعيش أسرى للماضي فقط، وعلينا أن نعيش واقعنا وحاضرنا وحياتنا الحالية دون الاستياء منها لأننا نؤسس بذلك لحياة هانئة، ولكن حتى لا أكون مجافيا للحقيقة، نعيش حاضرنا مع عدم نسيان هذا الماضي الجميل الذي يحمل ذكريات طفولتنا وشبابنا وتسامحنا وطيبتنا وكل صفاتنا الإنسانية الجميلة..ولكن حتى أغضب البعض، أعود واكرر علينا أن نعيش حاضرنا لنؤسس حياة سعيدة بمعايير اليوم، وأذكركم وأذكر نفسي أيضا بما نقوله للبعض عندما نلتقي: «الدنيا لا تزال بخير»، وهذه حقيقة، الخير في أمتي إلى يوم الدين، وهذا قول من لدن المولى عز وجل، فمن نعم الخالق سبحانه وتعالى علينا أن منحنا القدرة على تحقيق التوازن في حياتنا، بأن ندرك الحياة بالعقل ونعيشها لحظة بلحظة، حتى تستمر طاقتنا ونتواكب مع العصر.
ولعلي وأنا أتراجع عن التفكير في الزمن الجميل، لا استطيع مغادرة هذا الزمان دون أن تعود ذاكرتي إلى كوكب الشرق والغناء العربي وهي تشدو قصيدة «أغداً ألقاك» هذه الرائعة الشعرية للشاعر السوداني الهادي آدم، الذي عشق فيها غده وليس ماضيه بعكسنا تماما، فتمنى مجيء الغد بسرعة وهو يعيش اليوم، ولكن من يعرف قصة حب هذا الشاعر يؤيده في شوقه لرؤية الغد الآن وليس بعد ساعة أو حتى دقيقة، فهو أحب زميلته في الكلية التي بادلته حبا بحب، ولكن لأسباب عده رفض أهلها طلبه بالزواج منها، واستمر الحال هكذا فترة طويلة، حتى جاءه بشيراً بموافقة الأهل والتراجع عن موقفهم القديم، ليسطر لنا هذه الأبيات الرائعة التي يتغنى فيها بشوقه وهيامه وقرب موعد الذهاب لأهل حبيبته ورؤيتها مجددا ليعيد إلى قلبه نبضه وإلى جسده الحياة، ليقول «أغداً ألقاك يا خوف فؤادي من غدٍ..يالشوقي واحتراقي في انتظار الموعد..آه كم أخشى غدي هذا وأرجوه اقتراباً..كنت أستدنيه لكن هبته لما أهابا..وأهلت فرحة القرب به حين استجابا..هكذا أحتمل العمر نعيماً وعذابا..مهجة حرة وقلباً مسه الشوق فذابا».
وتستمر الأحلام باللقاء حتى يصف محبوبته بالدنيا، ليس هذا فقط، فالدنيا بها كل الصفات الجميلة، فالدنيا كتاب وهي الفكر والدنيا ليال وهي العمر وهكذا تواصل أم كلثوم امتاعنا بقصيدة «أغداً ألقاك» لقد عاد الشاعر الهادي أدم الى الحاضر وأره الأحلى حتى وإن كان الغد حلواً، ولكنه أبداً لم يعد إلى الماضي، فكفاه ما مر من مرارات وعذابات الفراق والهجر القسري.

كاتب ومحلل سياسي بحريني