قـــرية العقـــر جنــة معلقة على جنبــات الجبــل الأخضر

مزاج الثلاثاء ٢٤/أبريل/٢٠١٨ ٠٥:٠٧ ص
قـــرية العقـــر


جنــة معلقة على جنبــات الجبــل الأخضر

الجبل الأخضر – أسد بن حارث الزكواني

معلقة على جرف صخري على سفح الجبل تبدو «قرية العقر»وهي إحدى قرى الجبل الأخضر العريقة ذات البعد التاريخي الغائر في القدم. قيل أنها سميت بهذا الاسم نسبة إلى شكل البيوتات التي بنيت على شكل خلية نحل أو الدبور بشكلها الهندسي الطابقي حيث يمكن رؤية كل بيت مرصوص بالآخر كأحد أنظمة الاستحكامات العسكرية القديمة بحاراتها وسككها المنخفضة والضيقة والملتوية لتبقى لوحة ناطقة بعظمة الإنسان العماني.

تجاور هذه القرية من ناحية الغرب قرية العين ومن الجنوب قرية القشع، ويقطن هذه القرية أفخاذ من قبيلة الريامي كالعمور وبني توبة والريامي. لقد كانت قرية العقر كغيرها من قرى وبلدان الجبل الأخضر تنشد الكفاف في عيشة أهلها، بسيطة بنشاطاتها الاقتصادية.. متنوعة حسب حاجة أهلها، وما يفيض من إنتاج تجده يُحمل إلى المدن أسفل الجبل لتصريفه ولتزويد المجتمع القروي بما يحتاجه من كماليات المدن.
تتميز القرية بإنتاجها الزراعي الوفير من فاكهة الرمان إذ يحتل هذا المحصول الدرجة الأولى من مزروعاتها التي تقع أسفل القرية ناحية الغرب كجنان معلقة على جنبات الجبل بمدرجاتها الشهيرة الخضراء، وهي تحكي قصة أخرى من إبداعات الإنسان العماني والجبلي بشكل خاص لتحديه قساوة هذا الجبل وشح موارده المعيشية وجلده في سبيل البقاء الغريزي فأهداه عقله إلى إنشاء تلك الجنان المدرجة للزراعة وبنى لها الأفلاج بهندستها البديعة، ومنها فلج «الأعور» الذي ينبع من قرية العين المجاورة ويجود أيضا في هذه القرية العنب والليمون والخوخ والمشمش والعديد من المزروعات الحقلية كالثوم والبصل والشعير والبر، والى جانب الزراعة يربي الأهالي فيها الماشية كالماعز الجبلي الشهير وذلك لوفرة المراعي واتساعها شمال القرية وشرقها.

التعليم في عمان قديماً

عرفت عمان منذ العصور الإسلامية المبكرة التعليم وخصوصاً تعليم القرآن الكريم ومبادئ الدين الحنيف والعلوم المرتبطة به من علوم اللغة العربية، ومبادئ الحساب مثلا، وكانت هذه المدارس تدعى «مدارس تحفيظ القرآن الكريم» وهي نفسها المعروفة في ثقافة الحضارة الإسلامية بـ»الكتاتيب» اسم يطلق على المكان الذي كان الصبيان يتلقون فيه التعليم، وقد مرت هذه الكتاتيب بتطورات مختلفة سواء في المبنى أو في المواد التدريسية، فعلى مستوى المكان كانت غالباً تقام تحت ظل شجرة ثم انتقلت إلى مجلس الجماعة بعدها تطوره كحجرة ملحقة ببيت المعلم ثم تطور الأمر إلى أن أصبحت مبنى ملصق بالجامع أو المسجد الذي يصلي فيه الناس ثم انفرد مبناها بنفسه وتعارف أهالي كل قرية على مكانها باسم مدرسة تحفيظ القرآن. أما من ناحية المواد الدراسية فقد كانت في بدايتها تقتصر على تحفيظ القرآن الكريم وخصوصاً قصار السور منه، ثم تدريجياً إلى تحفيظ القرآن كاملاً بعدها اهتمت بتعليم مبادئ اللغة العربية كالخط مثلا، والنحو والصرف والشعر والعروض...إلخ ثم إلى علوم الشريعة الإسلامية كالطهارة والعقيدة والتفسير ثم الميراث وعلوم الحساب.

تاريخ مدرسة العقر لتعليم القرآن الكريم:

يحدثنا د. علي بن محمد بن ناصر الريامي تخصص التاريخ الحديث والمعاصر ويسكن قرية العين عن مدرسة العقر لتعليم القرآن. يقول: «توجد المدرسة عند مسجد «الحقابة» الذي يتوسط قريتي العين والعقر، وسميت المدرسة باسم القرية «مدرسة العقر لتعليم القرآن الكريم» وحسب الروايات الشفوية التي يتداولها الأهالي هنا، فإن تاريخ إنشاء هذه المدرسة ضارب قي القدم ويقدره بعض الأهالي بأكثر من 300 سنة، وبعضهم يرجعه إلى عصر «دولة اليعاربة» ومهما يكن من أمر نشأة هذه المدرسة فإن ما يهمنا منها هو تأدية رسالتها السامية التي جاءت ثمرة إحساس الأهالي بأهمية التعليم وخصوصا التعليم الديني.

وحسب الرواية جاء إنشاء هذه المدرسة بتكاتف الأهالي وتبنيهم لهذا المشروع الفكري، فسخرت له الإمكانيات المحدودة وتكاتف الأهالي في بنائها في تلك البقعة لتكون ملحقة بمسجد «الحقابة» ومعزولة عن القرية على الطريق الواصل بينها وبين قرية العين ليكون المتعلمين بضجيج قراءتهم وتعلمهم بعيدين عن القرية وصخب الحياة المعيشية اليومية، وفرصة سانحة لتلقي العلوم في مكان هادئ، وفي لقاء سابق لي مع المعلم علي بن سعيد الريامي رحمة الله يقول: «كانت هذه المدرسة منذ أجداد أجدانا ولها أوقاف عبارة عن أموال زراعية يقوم المعلم المتعهد بالتعليم فيها باستغلالها كريع له نظير تعليمه لصبيان القرية، وتشمل هذه الأوقاف أموال وأراض بها فاكهة الرمان وغيرها من الفواكه ومساحات لزراعة القمح والمحاصيل الحقلية التي يحتاجها المعلم لحياة أهله، وقد يبادر بعض أهالي المتعلمين ويعطون المعلم مبالغ سنوياً.

كيفية اختيار المعلم

عن كيفية اختيار المعلم قديما لهذه المدرسة يقول د. علي الريامي: كان أهالي القرية وشيخهم وكبارات القوم هم من يختارون المعلم من بينهم أو يتم التعاقد عليه من بلاد أخرى مثلما حدث في فترة نهاية الخمسينات من القرن المنصرم حين استقدم أهالي قرية العقر المعلم منصور بن حمدان الجابري ليقوم بتعليم أبنائهم في هذه المدرسة المذكورة حتى الستينات من نفس القرن، ومن بعدها خلفه المعلم سليمان بن حمود العمري الذي أكمل أكثر من 35 سنة كمعلم لصبيان القرية وأجزل له راتب معاشي بعد 1970 من حكومة جلالة السلطان مع استغلاله للأوقاف التي أوقفها أهل البلد لهذه المدرسة وتخرج كثير من الطلبة اللذين اصبحوا اليوم منارات وروافد للتنمية البشرية في شتى مجالات العمل في السلطنة فمنهم المعلم على يد هذا المعلم المغفور له بإذن الله تعالى.

نظام التعلم في المدرسة:

ويتابع د.علي الريامي حديثه لنا عن نظام التعليم والأدوات المستخدمة. يقول: الأدوات التي كان الطلبة يحضروها لتلقي العلم هي المصحف الشريف الذي كان يوضع «حفاظا عليه» في «بخشة» أي حقيبة صغيرة مخاطة من الخلق الأبيض النظيف ومرفع خشبي ليستند المصحف عليه أثناء القراءة، وكذلك أقلام البوص التي كانت تصنع من شجرة الحلف أو من ريشة طائر النسر وجرة صغيرة لمداد مصنوع محليا من صمغ أشجار الطلح أو من قشر لحاء شجرة الجوز، ولصناعة الحبر هذه قصة أخرى ومتعة من متع التعليم وأسرار الكيمياء العمانية».

ويضيف: «وفيح آل عدم توفر الأقلام أو الصحف والأوراق والمداد كان الشائع استخدام الصوار وهو عبارة عن لوح من حجر الكلس الذي كانت تشتهر به قرية العقر وهو نوع من الصخــــــور يأتي على شكل لوح رخـــــــامي أحمر ويستخدم للكتابة عليه حجر الرخام الأبيض ليكون الخط واضحا بمعنى كان اللوح الحجري المستخدم كسبورة للكتابــــــة لونها أحمر والطبشور لـــــــــــوح رخامي أبيض يهذب إلى قطع صغيرة تمسكهـــــــا يد الطفل للكتابة تسمى محليا «رخام».
وكان توزيع الطلبة في المدرسة على شكل حلقة رأسها المعلم ويكون موقعه على باب المدرسة ويلتف الطلبة على شكل حلقة أو قوس يتوزع الذكور منهم على ميمنة المعلم والإناث على ميسرته، ونظام التعليم يتم حسب ترتيب القارئ إلى أي مرحلة وصل في المصحف فيبدأ عادة المعلم بالأطفال الصغار اللذين يتلقون أول الأمر مبادئ النظافة والغسل والوضوء للصلاة مرورا بالأطفال الذين هم في قصار السور، وتدرجا بينهم وانتهاء بالأطفال الأكبر سنا واللذين وصلوا إلى مرحلة إعراب القرآن الكريم أو قسمة الميراث. كان التعليم بهذه النمطية البسيطة يبدأ من طلوع شمس اليوم حوالي الساعة السابعة والنصف تقديرا بالتوقيت الحالي، وحتى قرب منتصف النهار قبيل الظهر إلى الساعة الحادية عشر وعادة ما يسبق الطلبة المتعلمون أستاذهم مبكرين يأخذون أماكنهم في المدرسة ويشرف عليهم عريف لفظ النظام مكلف من قبل المعلم، يحضر الطلبة أدواتهم ويشرعون في مراجعة دروسهم قبل حضور المعلم وقبل مباشرة التعليم، وقد تحلى الطلبة بعظيم الأخلاق والتهذيب، فنتذكر ومنا من درس في هذه المدارس حين نبتغي الشرب مثلا نستأذن المعلم بقولنا «سقاك الله المعلم» وعندما نحتاج الى الخلاء نستأذن بقولنا «رحمك الله لمعلم».
وأثناء خروج الطلبة يخرجون وفق آلية محددة متعارف عليها يخرج الذكور أولا وهم يرددون أنشودة الختام بأهازيجهم وتسمى «الرفعة» ثم تتلوهم البنات وخلف الجميع يمشي المعلم وهو يراقبهم حتى وصولهم لمنازلهم بالقرية.
وعند ختم الطالب للقرآن أو العلوم في المدرسة يقام له حفلة داخل المدرسة لوداعه ومباركة ختمه للقرآن يصاحب هذه العادة بعضا من المأكولات والمشروبات أنشودة التيمينة وهي عبارة عن أبيات شعرية يرددها الأطفال احتفالا بالمناسبة مثالا عليها:
تصبح يا معلم بالسعادة... وأمرنا بأمرك للرواح
بروح سالمين من الرزايا... وأتونا الغداة من الصباح
فما ضرب المعلم فيه عار... ولا حرج فيه ولا جناح
فإن الضرب يؤذيكم ويبرى... وبعد الضرب تلقون الصلاح
وفي الختام يتوجه د. علي الريامي بنصيحة ورسالة إلى جهات الاختصاص يقول: «أدعو إلى الحفاظ على هذه العادات والتقاليد في قرى النيابة لصقل الفكر الحضاري للأجيال الحاضرة وفي المستقبل وتمسكهم بـ كتاب الله وسيرة نبيه المصطفى وفهم معانية الحقيقية للحياة وتطبيقها، وعلى وزارة التراث والثقافة والمؤسسات المسؤولة في المجتمع أن تحمي هذا الإرث من الاندثار وتنقذ القرى وما تبقى منها من اندثار محقق، أو أن تتكاثف أيدي الأهالي أصحاب القرى لعمل شركة محلية أهلية هدفها الحفاظ على القرية بنمط معيشتها الكلاسيكي وتحويلها إلى مشاريع سياحية رائدة وبذلك نضرب عصفورين بحجر واحد، وهذه دعوة نضمنها هذا المقال لعلها تجد أذن صاغية وهمم وعزائم مبادرة تعي مسؤوليتها تجاه وطنها ومقدراته.