التشغيل الآلي والزعامة الأمريكية

مقالات رأي و تحليلات الثلاثاء ٢٤/أبريل/٢٠١٨ ٠٥:٢٦ ص
التشغيل الآلي والزعامة الأمريكية

روبرت سكيدلسكي

قبل زمن ليس ببعيد، كان هناك تفسيران متنافسان لنقص فرص العمل. الأول تمثل في النظرية الكينزية في ما يتصل بنقص الطلب، والتي ترى أن العمال يصبحون بلا أعمال «على غير إرادتهم» عندما يفتقر مجتمعهم إلى المال اللازم لشراء السلع والخدمات التي ينتجونها. أما التفسير الثاني فكان الرأي الذي ارتبط غالبا بمدرسة شيكاغو، والذي يرى الباحثون عن عمل ركونا طوعيا إلى الراحة على حساب العمل مهما كان الأجر المعروض.

والآن يوجد تفسير ثالث بات يكتسب قوة وأهمية، مفاده أن التراجع في فرص العمل بدوام كامل سببه الاعتماد على التشغيل الآلي (الأتمتة). ولا شك أن فكرة ابتلاع الروبوتات للوظائف البشرية ما هي إلا منظور جديد لمشكلة قلة العمل في التكنولوجية القديمة جدا. لكنه منظور يستحق الاهتمام، لأن المشكلة لا يمكن حلها باستجابات السياسات التقليدية.

تتعامل الرواية «الرسمية» بشأن بالتكنولوجيا مع تسريع التغيير كأمر حتمي. ووفقا للمؤسسات، ومراكز البحث، وفرق العمل، وكل الكيانات المشابهة التي تحمل أسماء مختصرة، ستؤدي الأتمتة والذكاء الاصطناعي قريبا إلى اختفاء عدد كبير من الوظائف البشرية أو تغييرها، وإن كان لا يمكن التنبؤ بهذه الوظائف.
في الوقت ذاته، يعتبر تبني التكنولوجيا الجديدة أمراً ضرورياً لتحقيق النجاح الجيوسياسي والنجاح التنافسي لأي دولة. لذا ينبغي تقبل أي تعطيل أو اضطرابات تحدث لنماذج العمل القائمة و»تخفيف حدتها» بتكييف نظم التعليم والضمان الاجتماعي بما يناسب احتياجات سوق العمل الذي تحركه الأتمتة.
وهذا ما تنبئنا به فحوى تقرير جديد نشره مجلس العلاقات الخارجية يحمل عنوان العمل مستقبلا: الآلات، المهارات، والزعامة الأميركية في القرن الحادي والعشرين. يبدأ هذا التقرير، مثل غيره من التقارير المتعلقة بالموضوع، من الافتراضات المسلم بها ــ وغير المبررة إلى حد كبير ــ ويصل إلى استنتاجات غير فعّالة تشبه الأدوية المسكنة.
فهو مثلا يخبرنا بأن الاحتمالات التكنولوجية ستحدد نواتج الوظائف، لأن غالبية الوظائف سوف تؤدى آليا بشكل كامل أو جزئي، وأن المقاومة لا جدوى منها، وأن التكيف (أو «تخفيف الآثار المترتبة») هو الخيار الأوحد. فضلاً عن ذلك، يؤكد التقرير على حتمية تبني الابتكار التكنولوجي والتحمس له، وإلا سيندفع «أفضل وأذكى» العاملين أفواجا إلى منافسين أجانب.
كما يخبرنا التقرير بأن الولايات المتحدة إذا أقدمت على إبطاء وتيرة التشغيل الآلي بشكل أحادي، فستخسر وضعها كقوة مهيمنة على المسرح العالمي. وبافتراض أن الصين تمثل العدو الاستراتيجي للولايات المتحدة، فليس أمام الشعب الأميركي إلا تبنى الابتكار التكنولوجي إذا كان يريد الفوز بسباق زعامة العالم.
أخيرا يخبرنا التقرير بأن العمل هو مصدر هوية المرء، لذا يكمن التحدي في إنقاذ الصور التقليدية الأكثر مرونة للتشغيل المدفوع الأجر غير المرتبط بالعوائد، بدلا من فصل الأمن الاقتصادي عن التشغيل. ومن ثمّ يجب نبذ فكرة وجود دخل أساسي شامل نظرا «لتكلفته الهائلة والعوائق المحتملة أمام العمل»، وفقا للتقرير.
لو التزمنا بهذه القواعد الأساسية، فيجب إذن أن يكون الرد الوحيد على زحف الروبوتات تطبيق سياسة نشطة لسوق العمل تُوَجه نحو إعداد العمال للتسابق مع الآلات. كما ينبغي لنا أن نتصدى لتحدي سوق العمل الأقل استقراراً، بجعل الناس أقل استقرارا في أعمالهم.
ويُحسَب لتقرير مجلس العلاقات الخارجية اقترابه من بلورة نقطة مهمة بشأن العلاقة بين قلة فرص العمل الدورية ومشكلة الباحثون عن عمل التكنولوجية الأطول أمدا. وقد أصاب مؤلفو التقرير في نظرتهم إلى سياسة «التشغيل الكامل للعمال» باعتبارها ضرورية (وإن كانت غير كافية في حد ذاتها) للفوز بقبول عامة الناس للتشغيل الآلي. بل إنهم لاحظوا أن الاقتصاد الأميركي حقق هدف التشغيل الكامل للعمال خلال 30% فقط من الفترة الممتدة منذ عام 1980 حتى وقتنا هذا، مقارنة بنحو 70% من الفترة بين أواخر أربعينيات القرن الفائت وعام 1980. وهنا يحذر مؤلفو التقرير قائلين: «من المحتمل في أي وقت أن يجد ملايين الأشخاص أنفسهم بلا عمل على غير إرادتهم، ومشغولين بالبحث عن عمل، وسوف ترتفع هذه الأرقام بشدة في أوقات الركود والتباطؤ الاقتصادي».
لكن التقرير يقترح «لتخفيف» هذه المشكلة مزيداً من نفس السياسات التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه. فوفقا لهذا التقرير، ينبغي استخدام سياسة نقدية لتوسيع نطاق التشغيل ــ حتى رغم فشلها المتواصل في تحقيق ذلك. كما يوصي التقرير بأن «يستخدم الكونجرس وإدارة ترامب أيضا السياسة المالية بشكل حكيم للحفاظ على النمو القوي وتشغيل العمال» ــ حتى برغم أن «عجز الموازنة الفدرالية المتفاقم سوف يُفضي للأسف إلى فرض المزيد من القيود على» الجهود المبذولة في هذا الاتجاه.

كفانا مبالغة في تضخيم نجاح سياسات الاقتصاد الكلي في مواجهة «تحدي الوظائف». وبدلا من ذلك لم يعد أمامنا سوى تدابير الاقتصاد الكلي المعتادة لإعداد الناس لتشغيل العمال القائم على الحسابات الخوارزمية ــ بمعنى استخدام البيانات الضخمة لتكييف الأشخاص مع الوظائف التي سيحتاجونها كي يظلوا مستهلكين. ويخبرنا التقرير مجددا بأن المشاركين في سوق العمل في المستقبل ينبغي أن يكونوا مزودين بالتعليم المستهدِف للوظيفة وشرائح ضمان اجتماعي متنقلة لمساعدتهم في القفز من مكان عمل يعتمد على التشغيل الآلي إلى آخر.

في حالة التعليم، يطالب التقرير أرباب الأعمال والمؤسسات التعليمية بالتعاون معا لتطوير «شبكة مترابطة لضخ المواهب»، ونجده في هذا السياق يضرب مثلا بما تقدمه «ميامي ديد كولدج» من «برامج دراسية في الرسوم المتحركة وتطوير الألعاب بالتعاون مع شركات مثل بيكسار أنيميشن ستوديوز وجوجل». بالمثل قامت تويوتا «ببناء برنامجها الدراسي الفني الخاص للتصنيع المتطور، بغية توفير سبيل للطلاب الباحثين عن وظائف في الشركة.ولضمان تسهيل تنقل العمال، يعطي التقرير الأولوية لمبدأ «الأمن الوظيفي المرن» في صورة مزايا متنقلة («المساعدة في انتقال العمال»). وبأسلوب نمطي، لا يحاول التقرير فصل المزايا عن العمل ذاته، لكن يفصلها عن «أصحاب العمل الفرديين ووظائف الدوام الكامل».

في النهاية، لم يحدد التقرير في أي جزء من أجزائه ما إذا كانت صور العمل المرنة في «اقتصاد العمل الحر المرن» تمثل نقص الطلب الذي نصت عليه النظرية الكينزية، أو الاختيارات الطوعية لوظائف الدوام الجزئي والعمل الحر، أو الغزو القسري للتشغيل الآلي. وبينما يعترف مؤلفو التقرير بأن العولمة والحركة النشطة للتكنولوجيا قد خلفتا وراءهما جزءا كبيرا من سكان ومناطق الولايات المتحدة فيما يتعلق بالثروة والدخل وتقدير الذات، فإن العلاج الذي يقدمونه يتلخص في مضاعفة الجهود الجارية لتمكين «المتخلفين عن الركب» من اللحاق به.
من جانبي، قد أستخلص استنتاجا مختلفا من نفس الحقائق. فإذا كان الهدف رفع كل القوارب لأعلى درجة ممكنة، فلا مفر من إبطاء حركة العولمة والأتمتة بدرجة ما. فكل مواطن له الحق في أن تشمله مزايا هذا التطور وأن لا يُترك متخلفا عن الركب. ولا ينبغي لنا أن نضحي بمناصرة هذا الحق لأجل تقديرات حسابية زائفة إلى حد كبير عن التأثيرات المترتبة على إبطاء وتيرة الأتمتة على زعامة الولايات المتحدة عالميا.

عضو مجلس اللوردات البريطاني، والأستاذ الفخري للاقتصاد السياسي بجامعة وارويك.