الشعبوية ترتد على الساحر

مقالات رأي و تحليلات الأربعاء ٢٠/يونيو/٢٠١٨ ٠٣:٤٣ ص
الشعبوية ترتد على الساحر

فيديريكو فوبيني

تحتوي المناقشات حول اليورو عادة على مقترحات حول الترتيبات المالية المعقدة اللازمة لبناء «الصمود» في مواجهة الصدمة الاقتصادية التالية. ومع ذلك فإن الصدمة التي نشهدها حاليا سياسية. إذ يحقق الشعبويون المكاسب في مختلف أنحاء الاتحاد الأوروبي، والآن يحكم إيطاليا، العضو المؤسس في الاتحاد، تحالف رافض لأوروبا يتألف من حركة النجوم الخمس الشعبوية وحزب الرابطة القومي.

وكما هي الحال دوماً عندما تستولي قوى مناهضة للمؤسسة على السلطة في مجموعة الدول الصناعية السبع أو الاتحاد الأوروبي، فإن السؤال الآن هو ماذا قد يأتي بعد ذلك، وما إذا كان هناك طريق للعودة إلى الوضع الطبيعي. في حالة إيطاليا من السابق للأوان أن نعرف الإجابة. ولكن في الوقت نفسه، يمكننا أن نتأمل في الدروس التي قد يستفيد منها الأوروبيون وهم يحاولون احتواء المد الشعبوي.

الدرس الرئيسي هو أن الدول الأوروبية لا يمكنها أن تواجه انبعاث القومية الشعبوية والغلو في الوطنية ما لم تتعاون. ولكن من المؤسف أن الاستجابة للمكاسب الشعبوية كانت حتى الآن أشبه بالاستجابة لسياسات الحماية في ثلاثينيات القرن العشرين والتي قامت على إفقار الجار، حيث حاولت كل دولة إحالة المشكلة إلى آخرين إلى أن تعود لتعقر الجميع.
في العام 2015، نجح رئيس وزراء إيطاليا آنذاك ماتيو رينزي في إقناع المفوضية الأوروبية بأن حكومته في احتياج إلى المزيد من «المرونة» في التعامل مع الإنفاق بالعجز من أجل الإبقاء على حركة النجوم الخمس على مسافة بعيدة. وقد أثار هذا التحريف لقواعد ميزانية الاتحاد الأوروبي، كما كان متوقعا، غضب الجمهور الألماني، وغذي الدعم لحزب البديل من أجل ألمانيا اليميني المتطرف، الذي أصبح الآن الحزب المعارض الرئيسي في مجلس العموم الألماني. ولكن بطبيعة الحال، كان الغضب الشعبي أيضا هو ما أجبر الحكومة الألمانية على فرض شروط بالغة الصرامة على اليونان في العام 2015، وبالتالي إشعال شرارة ثورة شعبوية في ذلك البلد أيضا.
على نحو مماثل، أدى الغضب الشعبوي في هولندا وألمانيا بشأن عمليات إنقاذ البنوك إلى استنان تشريع صارم ضد عمليات الإنقاذ على مستوى الاتحاد الأوروبي بعد الأزمة المالية في العام 2008. لكن هذا التشريع تسبب آنذاك في إطالة أمد الضائقة الائتمانية في إيطاليا، والتي بدورها غذت الشعبوية هناك. ثم أتت بداية أزمة اللاجئين، عندما أرسلت إيطاليا المهاجرين عبر جبال الألب، فحولت بذلك المشكلة إلى فرنسا والنمسا. وقد عزز ذلك التوقعات الانتخابية لحزب الحرية القومي المتطرف في النمسا والجبهة الوطنية اليمينية المتطرفة في فرنسا. وفي نهاية المطاف، أغلقت كل من النمسا وفرنسا حدودها، الأمر الذي مهد الطريق أمام حزب الرابطة للاستفادة من الغضب العام بشأن الهجرة.
بطبيعة الحال، كانت جذور التحول الشعبوي في إيطاليا محلية وتاريخية أيضا. فنظرا لإخفاقات الحكومات السابقة، لم تشهد إيطاليا أي نمو لنصيب الفرد في الناتج المحلي الإجمالي طوال عقدين من الزمن. وكانت الإنتاجية في قطاع الخدمات ــ وهو الأقل عُرضة للمنافسة العالمية ــ راكدة منذ تسعينيات القرن العشرين.
هذه مشاكل من صنع إيطاليا ذاتها. فبعد العام 1945، أصلحت إيطاليا مؤسسات السياسية ولكنها فشلت في إدخال التغييرات اللازمة على اقتصادها. ورغم أنها انتقلت من الدكتاتورية إلى الديمقراطية، فقد عاشت زخارف النظام الفاشي من خلال الاستعانة بنهج شركات في تنظيم السوق فضلا عن التدخل الحكومي الواسع النطاق في التمويل والصناعة. وقد تآكلت بعض سمات النظام القديم بعد العام 1992، بموجب معاهدة ماستريخت، لكن سمات أخرى ظلت باقية.

على سبيل المثال، نتيجة للمساومة المركزية على الأجور، كان متوسط التعويض في القطاع الخاص أقل بنحو 6% فقط في الجنوب الإيطالي مقارنة بالشمال، حتى برغم أن تقدم الإنتاجية في الشمال على الجنوب كان أعظم كثيرا. وفي ظل هذه الظروف، لا يوجد سبب وجيه للاستثمار في أي مكان يقع جنوب روما، وهو ما يفسر لماذا انخفض نصيب الفرد في الناتج المحلي الإجمالي في المنطقة بنسبة 30% عن المتوسط في منطقة اليورو منذ العام 2001. وعلى هذه الخلفية، ليس من المستغرب أن يصوت 47% من الجنوبيين لصالح حركة النجوم الخمس، التي يتلاءم اقتراحها بتقديم إعانة دعم شاملة مع اقتصاد معوق بفِعل نزعة شركاتية من العصر الفاشي.

لا تتوافق النزعة الشركاتية ببساطة مع الاتحاد النقدي. ومع ذلك، يصعب إصلاحها بسبب التبعيات التي تخلقها. ولهذا السبب فشلت حكومات سابقة عديدة في تحديث الاقتصاد. فبعد إرغام سيلفيو بيرلوسكوني على الاستقالة من منصبه رئيسا للوزراء في العام 2011، اتخذ التكنوقراطي ماريو مونتي بعض التدابير، ولكن في الفترة التي سبقت الانتخابات، تباطأ التقدم إلى أن توقف. كما لاحق رينزي إصلاحات محدودة، لكنه في نهاية المطاف وقع فريسة لنرجسيته المتضخمة.

ولكن حتى في وجود قادة أكثر فعالية، كانت إيطاليا لتواجه رياح الاتحاد الأوروبي المعاكسة. وقد أدت الاستجابة المالية المحافظة للركود في فترة ما بعد 2008، مقترنة بتذبذب استجابات البنك المركزي الأوروبي قبل يوليو 2012، إلى التقشف المفرط، الذي عاث فسادا في الطبقة المتوسطة الإيطالية، ودفع بها نحو الشعبوية. عندما تولى مونتي المنصب في نوفمبر 2011، كان أداء حركة النجوم الخمس وحزب الرابطة الشمالية (كما كان يدعى آنذاك) أقل من 10% مجتمعين؛ واليوم أصح هذا الرقم أعلى كثيراً من 50%.
لقد أنفقت إيطاليا جزءاً ضئيلاً مما كرسته اقتصادات متقدمة أخرى عديدة (كحصة من الناتج المحلي الإجمالي) لإنقاذ البنوك بعد أزمة 2008. لكن قراراها المفاجئ بإشراك البنوك في تحمل الخسارة في العام 2015، أجبر صغار المدخرين على تحمل الخسارة، وعزز حركة النجوم الخمس في وقت حيث كانت حظوظها واهية. والآن، في استعراض لأحداث الماضي، كانت الخسائر المالية التي تكبدها الإيطاليون العاديون، مقترنة بالشعور بأن الاتحاد الأوروبي تركهم يتعاملون مع أزمة اللاجئين بمفردهم، سببا في جعل ردة الفعل الشعبوية حتمية.
الواقع أن موقف إيطاليا السياسي يبين إلى أي مدى أصبح النهج الذي تتعامل به أوروبا مع الشعبوية ساما. وفيما يحاول ساسة التيار الرئيسي في مختلف أنحاء الاتحاد الأوروبي حماية أجنحتهم ضد تهديدات شعبوية محلية، تسببت الدفاعات التي أقاموها في إذكاء نيران الشعبوية في دول مجاورة. وكانت النتيجة تأثير الدومينو، الذي أصبح التهديد الرئيسي لمستقبل اليورو والاتحاد الأوروبي.
لقد فشل الساسة في مكافحة الشعبوية، لأنهم كانوا يركزون على حياتهم المهنية والانتخابات المقبلة. ولكن إن عاجلا أو آجلا، يتعين عليهم أن يدركوا أن استراتيجية إفقار الجار ستعود دوما لتطاردهم في نهاية المطاف. ولهذا السبب، ربما تشكل إيطاليا قريبا، كما كانت حال اليونان في العام 2015، تهديدا لأوروبا بالكامل.

كاتب عمود في الشؤون المالية،

وهو مؤلف كتاب «نحن الثورة»