ثورتنا المعلوماتية الوليدة

مقالات رأي و تحليلات الخميس ٢١/يونيو/٢٠١٨ ٠٤:١٣ ص
ثورتنا المعلوماتية الوليدة

جوزيف س. ناي، الابن

كثيراً ما يُقال إننا نشهد ثورة معلومات. ولكن ماذا يعني هذا، وإلى أين تأخذنا هذه الثورة؟
الواقع أن ثورات المعلومات ليست جديدة. ففي العام 1439، أطلقت مطبعة يوهانس جوتنبرج عصر الاتصال الجماهيري. وترتبط ثورتنا الحالية، التي بدأت في وادي السليكون في ستينيات القرن العشرين، بقانون مور: إذ يتضاعف عدد الترانزستورات على شريحة الكمبيوتر كل بضعة أعوام.
بحلول بداية القرن الحادي والعشرين، أصبحت تكلفة القوة الحاسوبية واحدا على ألف مما كانت عليه في أوائل سبعينيات القرن العشرين. والآن تربط الإنترنت كل شيء تقريبا. في منتصف العام 1993، كان هناك نحو 130 موقعاً على الإنترنت في العالَم؛ وبحلول العام 2000، تجاوز الرقم 15 مليون موقع. واليوم، أكثر من 3.5 بليون شخص يمكنهم استخدام الإنترنت؛ ويتوقع الخبراء أن تربط "إنترنت الأشياء" 20 بليون جهاز بحلول العام 2020. ولا تزال ثورتنا المعلوماتية في مهدها.
السمة الأساسية التي تميز الثورة الحالية ليست سرعة الاتصالات؛ إذ يرجع الاتصال اللحظي بواسطة التلغراف إلى منتصف القرن التاسع عشر. يكمن التغيير الحاسم في الانخفاض الهائل الذي طرأ على تكلفة نقل وتخزين المعلومات. فإذا انخفض سعر السيارة بنفس السرعة التي انخفض بها سعر القوة الحاسوبية، فإن المرء كان ليشتري سيارة اليوم بنفس الثمن الذي يدفعه لوجبة غداء رخيصة. وعندما ينخفض سعر أي تكنولوجيا بهذه السرعة، يُصبِح الوصول إليها متاحا على نطاق واسع، وتتساقط الحواجز التي تحول دون دخول المزيد من المستخدمين. ولكل الأغراض العملية، أصبحت كمية المعلومات التي يمكن نقلها في مختلف أنحاء العالَم لا نهائية تقريبا.
كما انخفضت تكلفة تخزين المعلومات بشكل كبير، الأمر الذي مكن قدوم عصر البيانات الضخمة الحالي. فالمعلومات التي كانت لتملأ مستودعا أصبح بوسعك اليوم أن تضعها في جيب قميصك.
في منتصف القرن العشرين، كان الناس يخشون أن تؤدي أجهزة الكمبيوتر والاتصالات من ثورة المعلومات الحالية إلى ذلك النوع من السيطرة المركزية التي صورتها رواية جورج أورويل المخيفة العامرة بالبؤس الإنساني "1984"، حيث يراقبنا الأخ الأكبر من جهاز كمبيوتر مركزي، على النحو الذي يجعل الاستقلال الفردي بلا معنى.
ولكن ما حدث مع انخفاض تكلفة القوة الحاسوبية وتقلص أجهزة الكمبيوتر إلى حجم الهاتف الذكي، والساعة، وغير ذلك من الأجهزة المحمولة، عملت التأثيرات المبطلة للمركزية على تكميل التأثيرات المعززة للمركزية، الأمر الذي عمل بالتالي على تمكين التواصل بين الأقران وتعبئة مجموعات جديدة. من عجيب المفارقات رغم ذلك أن هذا الاتجاه التكنولوجي عمل أيضا على إبطال مركزية المراقبة: فالآن يحمل المليارات من الناس طوعا أجهزة تعقب تنتهك خصوصيتهم على نحو لا ينقطع في بحثها عن الأبراج الخليوية. لقد وضعنا الأخ الأكبر في جيوبنا.
على نحو مماثل، تعمل وسائط التواصل الاجتماعي الكلية الوجود على توليد مجموعات جديدة عابرة للحدود الوطنية، لكنها تخلق أيضا الفرص للتلاعب من جانب الحكومات وغيرها. على سبيل المثال، يربط موقع فيسبوك أكثر من ملياري شخص، وكما أظهر التدخل الروسي في انتخابات 2016 الرئاسية، فإن هذه الصلات والمجموعات يمكن استغلالها لتحقيق غايات سياسية. وقد حاولت أوروبا إرساء قواعد لحماية الخصوصية بالاستعانة بالنظام العام لحماية البيانات، لكن نجاحها لا يزال غير مؤكد. من ناحية أخرى، تجمع الصين بين المراقبة وتطوير تصنيفات الائتمان الاجتماعي التي من شأنها أن تقيد الحريات الشخصية مثل السفر.
الواقع أن المعلومات تزود من يمتلكها بالقوة، وقد أصبح المزيد من الناس قادرين على الوصول إلى كم من المعلومات أكبر من أي وقت مضى، والتي قد تستخدم لتحقيق أغراض طيبة أو شريرة. والحكومات ليست القوى الوحيدة التي يمكنها استخدام هذه القوة، فمن الممكن أن تستخدمها أيضا قوى غير تابعة لدول بعينها تتراوح من الشركات الضخمة والمنظمات غير الربحية إلى المجرمين والإرهابيين ومجموعات غير رسمية مرتجلة تسعى لتحقيق أغراض محددة.
هذا لا يعني نهاية الدولة القومية. إذ تظل الحكومات الجهات الأكثر قوة على الساحة العالمية؛ لكن الساحة أصبحت أكثر ازدحاما، وبوسع العديد من القوى الجديدة أن تتنافس بفعالية في مملكة القوة الناعمة. فسلاح البحرية القوي مهم في السيطرة على الممرات البحرية؛ لكنه لا يستطيع توفير أي قدر يذكر من العون عندما يتعلق الأمر بالإنترنت. في أوروبا في القرن التاسع عشر، كانت علامة القوة العظمى قدرتها على الانتصار في الحرب، لكن كما أشار المحلل الأميركي جون أركويلا، فإن النصر في عصر المعلومات العالمي اليوم لا يعتمد في أغلب الأحيان على جيش من الذي خرج منتصرا، بل على قصة من التي انتصرت.
وتكتسب الدبلوماسية العامة وقوة الجذب والإقناع قدرا متزايدا من الأهمية، لكن الدبلوماسية العامة تتغير. فقد ولت الأيام حيث كان ضباط الخدمة الخارجية يحملون معهم أجهزة عرض الأفلام إلى المناطق النائية لعرض الأفلام على جماهير معزولة، أو عندما كان أشخاص خلف الستار الحديدي يحتشدون حول أجهزة الراديو القصيرة الموجة للاستماع إلى هيئة الإذاعة البريطانية. وقد أدى التقدم التكنولوجي إلى انفجار المعلومات، وبالتالي "مفارقة الوفرة": فوفرة المعلومات تقودنا إلى ندرة الاهتمام.
فعندما يصاب الناس بالارتباك بفِعل حجم المعلومات التي تواجههم، يصبح من الصعب معرفة ما يستحق التركيز. ويصبح الاهتمام، وليس المعلومات، هو المورد النادر. وتصبح قوة الجذب الناعمة موردا أكثر حيوية للقوة مقارنة بالماضي، ولكن هذه أيضا نفس حال القوة الصارمة المتمثلة في حرب المعلومات. ومع اكتساب السمعة قدرا أعظم من الأهمية، تتكاثر الصراعات السياسية حول خلق وتدمير المصداقية. فالمعلومات التي تبدو كدعاية لا تستقبل بالازدراء فحسب، بل وربما تفضي أيضا إلى نتائج هَدّامة إذا تسببت في تقويض سمعة دولة ما في ما يتصل بمصداقيتها.
خلال حرب العراق، على سبيل المثال، أدت معاملة السجناء في سجن أبو غريب وسجن خليج جوانتانامو بطريقة لا تتسق مع القيم الأميركية المعلنة إلى ترسيخ تصورات النفاق التي لا يمكن عكسها ببث صور لمسلمين يعيشون في رغد في أميركا. على نحو مماثل، تعمل تغريدات الرئيس دونالد ترمب التي تثبت كونها زائفة بوضوح على تقويض مصداقية الولايات المتحدة وتقليص قوتها الناعمة.
يُحكَم على فعالية الدبلوماسية العامة من خلال عدد العقول التي تنجح في تغييرها (وفقا للقياس من خلال المقابلات واستطلاعات الرأي)، وليس بعدد الدولارات التي يجري إنفاقها. ومن المثير للاهتمام أن نلاحظ أن مؤشر بورتلاند للقوة الناعمة 30 واستطلاعات الرأي تظهر انحدارا في قوة أميركا الناعمة منذ بداية إدارة ترمب. فقد تساعد التغريدات في تحديد الأجندة العالمية، لكنها لا تنتج قوة ناعمة إذا لم تكن جديرة بالتصديق.
الآن تعمل تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي أو التعلم الآلي السريعة التقدم على التعجيل بهذه العمليات. فغالبا ما يكون من الصعب كشف الرسائل الروبوتية. ولكن يبقى أن نرى ما إذا كان من الممكن أتمتة المصداقية والسرد المقنع بشكل كامل.

أستاذ في جامعة هارفارد، ومؤلف كتاب "مستقبل القوة".