العوامل التي تحدد رواتبنا

مقالات رأي و تحليلات الخميس ٢٢/أبريل/٢٠٢١ ٠٩:٤٤ ص
العوامل التي تحدد رواتبنا

بقلم : مرتضى بن حسين بن علي 

يشتد الجدل بين فترة واُخرى حول علاقة الرواتب بالانتاجية، طرف ينادي برفع الرواتب بغض النظر عن إنتاجية الموظف وربطها بمستوى المعيشة، فالرواتب من وجهة نظره لا بد أن تتلائم مع التغيرات الحاصلة في نفقات المعيشة بغض النظر عن إنتاجية الموظفين، وإن الزيادة سوف تزيد من القوة الشرائية للمواطن وتؤدي إلى تنشيط السوق، لإن كل مبلغ يُدفع للموظف مهما كانت درجته المالية، يعاد تدويره في البلد وينشط الاقتصاد. وطرف أخر يشير الى عدم وجود مبرر لتلك الزيادة، اذ إنَّ ذلك سيؤدي إلى نتائج عكسية، ويزداد التضخم بسبب إنخفاض مستويات الانتاجية بصورة عامة، كما ان القطاع الخاص ما زال قطاعا خدميا في معظمه، وخدماته غير قابلة للتصدير، وإن أي زيادة في غياب الانتاجية، ستساهم بانخفاض الأرباح أو تؤدي الى الخسائر وتسريح الموظفين أو عدم قدرة الشركة على التوسع وتوليد مزيدا من الوظائف، وتؤثر على القدرة التنافسية للاقتصاد العماني، وتحد من جذب الاستثمارات وتؤثر سلبا على أية صادرات، وما قد يترتب على ذلك من خلل في ميزان المدفوعات، ومن تهديد لمستقبل النمو والرواتب وفرص العمل ذاتها. تنبع أهمية الرواتب في عمان بكونها اولا مصدرا أساسيا من مصادر الدخل للعديد من الأسر، وثانيا لاعتقاد البعض ان الزيادة سوف تكون اداة مالية لترغيب المواطنين بالعمل في القطاع الخاص بعد ان ضاقت الوحدات الحكومية بالموظفين، وعدم قدرتها على توظيف المزيد منهم، لا سيما أن عدد الموظفين يفوق كثيرا جدا عما تحتاجها الحكومة، كما تفوق الاعداد كثيرا المعدل العالمي للموظفين لكل الف من السكان، الأمر الذي أدى إلى تدني الانتاجية في الأجهزة الحكومية، وإلى ترهل واضح وفساد اداري، كما أصبحت فاتورة الرواتب تشكل خطرا على الموازنه العامة للدولة، حيث أنها تستنزف ٨٠٪؜ من موازنة عام ٢٠٢١م، كما إن التجارب السابقة لتشجيع المواطنين بالعمل في القطاع الخاص عن طريق وضع حدود ادنى للرواتب وزيادتها سنويا، بغض النظرعن إنتاجية الموظف، لا تؤيد ذلك مستويات الرواتب تشير إلى هيكل الرواتب المرتبطة بوظائف مختلفة، وسلم وظيفي متدرج بما يتناسب مع المؤهلات وطبيعة العمل والاداء والخبرة وأخلاقيات العمل، إضافة الى الصفات الشخصية ونوعية المؤسسة والارباح التي تحققها. عموما يتحدد الراتب بالعلاقة المتبادله بين عرض العمل والطلب عليه، وعرض العمل هذا عرض شرائح ومستويات متباينة حسب مستويات التعليم والتدريب والتأهيل والخبرة والانضباط والجد والمثابرة وأخلاقيات العمل، ورغبة الموظف للتعلم ذاتيا وصقل مهاراته، والمواصفات والمؤهلات الشخصية الأخرى، وإذا زادت الرواتب بدون زيادة في الانتاجية، فانها تؤدي إلى زيادة التكلفة والتضخم، وبالتالي إلى تسريح العمال. وتشير بعض الدراسات أن زيادة الاجور بنسب10% بدون زيادة في الانتاجية، تؤدي إلى الاستغناء عن 3% إلى 5 % من العمالة غير الضرورية، عن طريق أستعمال وسائل تقنية أكثر تطورا، وفي هذه الحالة سوف تزداد الضغوطات لتشغيلهم في القطاع العام، لا سيما ان العمل فيه مازال منتهى الامل بالنسبة لغالبيية الداخلين إلى سوق العمل بسبب شعورهم بالامن الوظيفي ومن دون أية محاسبة ، مع ان التجارب أثبتت ان الأمن الوظيفي أصبح وصفة للترهل الوظيفي. قضية الرواتب في أي اقتصاد مهما كانت ظروفه ودرجة ومعدل نموه، ترتبط بمثلث حرج، ترتبط اضلاعه إرتباطا وثيقا بالانتاجية والاسعار وتنتهي قاعدته بالرواتب، ومستويات الرواتب تعكس مستويات الانتاجية المرتبطة بالانتاج وجودته وقدرة الشركات على تحقيق الارباح، ورفع الرواتب من دون أي مقابل إنتاجي يؤدي الى رفع تكلفة إنتاج السلع والخدمات، ويضطر صاحب العمل على تخفيض تكلفته عن طريق تسريح عدد من الموظفين، الآمر الذي سيدفع بمزيد من الاشخاص للبحث عن فرص العمل، وعندما يكثر الباحثون عن عمل، تقل الضغوطات للحصول على زيادة في الرواتب، وبالعكس فمع وجود عمالة ماهرة ومدربة ومتعلمة على كل الأصعدة ، وقوانين عمل مرنة، واقتصاد متنامي، فان الشركات تقوم بتوظيف مزيد من الموظفين، الأمر الذي يساهم في زيادة الرواتب حسب قوانين العرض والطلب، ذلك لأن هناك علاقة طردية بين وجود عمالة مدربة ومؤهلة والنمو الاقتصادي ونسب التشغيل ونمو الرواتب. المفهوم السليم لقضية الرواتب يتطلب النظر اليها ليس من خلال التضخم فقط، بل ايضا إلى الالتفات بإن الراتب يؤثر ويتأثر بمتغيرات أخرى عديدة، ولابد من اخذها بعين الاعتبار، وفي اعتقادنا ينبغي ان يركز التحليل الصحيح للرواتب على اربعة إشكاليات رئيسية وهي: علاقة الرواتب بالنمو الاقتصادي، وعلاقة الرواتب بالانتاجية، وعلاقة الرواتب بالأسعار، وعلاقة الرواتب بالتنافسية، وهذه العلاقات متشابكة مع بعضها البعض، ولا يمكن التركيز على واحدة منها دون الاخرى، كما ان التحليل الصحيح ينبغي ان ينطلق من فرضية هامة، وهي إن تكامل الاشكاليات وتشابكها في منظومة دائرية واحدة مهم، وأن علاج الخلل في الاجزاء لابد أن يأخذ بعين الاعتبار الأجزاء الاخرى، والرواتب لا تتعامل مع سجلات الحضور والانصراف، بل مع الانتاجية التي أصبحت الفريضة الغائبة في إقتصادنا، وزيادة الرواتب مع بقاء الإنتاجية على حالها او تراجعها تؤدي الى نتائج عكسية وخيمة، مثلما اثبتتها تجارب بلدان وشركات عديدة. وحدة العمل النسبية في عمان للانشطة الاقتصادية المختلفة أصبحت أعلى من دول أخرى مماثلة، الأمر الذي أثّر سلبا على القدرة التنافسية للاقتصاد العماني، وعلى قدرته لجذب الإستثمارات لتوليد فرص عمل جديدة ومجدية، كما ان الزيادة في الرواتب، وبدون زيادة في الانتاجية، تدفع الإقتصاد عموما إلى الوقوع في فخ التضخم المنفلت، و تبدأ العملة الوطنية بفقد قيمتها الشرائية تدريجيا، ومن الصعوبة أن تتم الزيادة في الرواتب بمعزل عن استراتيجيات واضحة، ومسارات متكاملة للنمو الاقتصادي المستدام، وتنويع مصادر الدخل، وإصلاح شامل للانظمة التعليمية والتدريبية وقوانين العمل، ويُقترح في هذا الصدد تبني استراتيجيات جديدة وواضحة ومتكاملة للنمو المستدام، تتضمن أيضا تحديد دقيق لدور شركاء التنمية، الحكومة والقطاع الخاص ومنظمات المجتمع المدني في هذا المجال، بحيث تتكامل الأدوار، ويلتزم الجميع القيام بالادوار المنوطة لكل طرف في هذه الاستراتيجية، مع الاخذ بعين الاعتبار أن القطاع الخاص سوف يكون المشغل الاساس للباحثين عن عمل. كما إن تحقيق الاصلاح المنشود في سياسة الرواتب وسوق العمل لا يمكن أن يكتمل دون استكمال البنية المؤسسية لسوق العمل، والعلاقة بين العامل وصاحب العمل، لابد أن يكون نتاجا لحوار إجتماعي معمق بين القوى الثلاثة المعنية في المعادلة، وهي الحكومة والعمال وأصحاب العمل، كما أن تحديد الراتب وتسوية المنازعات لا يمكن في رأينا ان يتم الا في إطار هذا الحوار الضروري، الذي يتخذ من رفع الانتاجية منبرا مشتركا تتفق فيه مصالح الموظفين والشركات بل والمجتمع بأسره، ووجود مؤسسات فاعلة لادارة الحوار حول هذه القضايا مهم وضروري، قبل ان تتفاقم المشاكل بشكل أكبر.كل ذلك سيجلب إلى الساحة مرة اخرى قضايا عديدة هي في صلب الموضوع مثل إصلاح كامل وجذري لمنظومتي التعليم والتدريب، وغرس مفاهيم المسؤولية واخلاقيات العمل لدى الطلبة منذ مرحلة الطفولة، وجذب الاستثمارات، وتوسيع قاعدة الاقتصاد واصلاح جذري لقانون العمل، وهذه من الأهداف المنشودة في الرؤية الوطنية للسلطنة ٢٠٤٠.