القوة الأمريكية الناعمة

مقالات رأي و تحليلات الأربعاء ٢٧/أبريل/٢٠١٦ ٢٢:٤٧ م
القوة الأمريكية الناعمة

إيفو دالدر
و روبرت كاجان

أصبحت الاستراتيجية الاقتصادية والسياسية والأمنية التي ظلت تتبعها الولايات المتحدة منذ أكثر من سبعة عقود، في ظل الإدارات الديمقراطية والجمهورية على حد سواء، أصبحت اليوم محل تساءل على نطاق واسع من قبل قطاعات واسعة من الرأي العام الأمريكي، وأصبحت تتعرض للهجوم من قبل كبار المرشحين السياسيين من كلا الحزبين. لم يعد كثير من الأمريكيين يولون قيمة للنظام الدولي الليبرالي الذي أنشأته الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية ودعمته طوال حقبة الحرب الباردة وما بعدها. أو ربما أنهم يأخذونه على أنه أمر مفروغ منه ولكنهم فقدوا الرؤية فيما يتعلق بالدور الأساسي الذي تؤديه الولايات المتحدة فيدعم البيئة الدولية والذي يستفيدون منه كثيرا. الازدهار الذي لم يسبق له مثيل الذي أتاحته الأسواق الحرة المفتوحة والتجارة الدولية المزدهرة؛ وانتشار الديمقراطية؛ وتجنب الصراعات الكبيرة بين القوى العظمى: كل هذه الإنجازات الملحوظة اعتمدت على انخراط الولايات المتحدة المستمر في جميع أنحاء العالم. ولكن السياسيين في كلا الحزبين يطرحون أمام الجمهور رؤيتهم لأمريكا المتحررة من أعباء القيادة.
إن ما لا يقوله هؤلاء السياسيون، ربما لأنهم لا يفهمونه هم أنفسهم، هو أن ثمن إنهائنا لانخراطنا في العالم سيكون أكبر كثيرا من تكاليفه. إن النظام العالمي الذي أنشأته الولايات المتحدة يواجه اليوم تحديات أكبر كثيرا من أي وقت مضى منذ ذروة الحرب الباردة. إن القوى الاستبدادية الصاعدة في كل من آسيا وأوروبا تهدد بتقويض الهياكل الأمنية التي حافظت على السلام منذ الحرب العالمية الثانية. فقد قامت روسيا بغزو أوكرانيا وسيطرت على بعض من أراضيها. وفي شرق آسيا، تسعى الصين التي تزداد عدوانية إلى السيطرة على الممرات البحرية التي تتدفق من خلالها حصة كبيرة من التجارة العالمية. وفي الشرق الأوسط، تسعى إيران للهيمنة من خلال دعم حزب الله وحماس والطغيان الدموي في سوريا. ويسيطر تنظيم داعش على أراضي أكثر من أي تنظيم إرهابي آخر في التاريخ، ويفرض بوحشية رؤية متطرفة للإسلام ويضرب أهدافا في جميع أنحاء منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
إن أيا من هذه التهديدات لن يزول هكذا ببساطة، ولن تكون الولايات المتحدة بمنأى عنها إذا ما انهار النظام الدولي، كما حدث مرتين في القرن العشرين. وفي القرن الحادي والعشرين، المحيطات لا توفر أمنا، ولا الجدران على طول الحدود، ولا عزل الولايات المتحدة عن الاقتصاد الدولي من خلال إلغاء اتفاقيات التجارة وإقامة الحواجز أمام التجارة.
بدلا من اتباع المشورة غير المسؤولة من الدهماء، نحتاج إلى استعادة إجماع الحزبين على السياسة الخارجية حول تجديد قيادة الولايات المتحدة العالمية. وعلى الرغم من توقعات "عالم ما بعد أمريكا"، فإن قدرات الولايات المتحدة مازالت كبيرة، ومازال اقتصاد الولايات المتحدة هو الأكثر ديناميكية في العالم. وقد ثبت أن مقولة "صعود بقية العالم" التي انتشرت على نطاق واسع – وهي أن فكرة الولايات المتحدة قد تجاوزتها اقتصادات البرازيل وروسيا والهند والصين – ثبت أنها أسطورة. فمازال الدولار الأمريكي هو عملة الاحتياطي العالمي، ويسعى الناس في جميع أنحاء العالم للحصول على الاستثمارات الأمريكية ومهارات تنظيم المشاريع لمساعدة اقتصاداتهم المتعثرة. ومازالت مؤسسات التعليم العالي الأمريكية هي الأفضل على مستوى العالم وتجذب الطلاب من كل بقاع الأرض. ومازالت القيم السياسية التي تدافع عنها الولايات المتحدة هي القوى الفعالة للتغيير. وحتى في زمن الاستبداد الذي استعاد نشاطه، فإن المطالب الشعبية بالمزيد من الحرية يمكن سماعها في روسيا والصين وإيران وغيرها من البلدان، وهذه الشعوب تتطلع إلى الولايات المتحدة طلبا للدعم، المعنوي والمادي. ومازالت مكانتنا الاستراتيجية قوية. وللولايات المتحدة أكثر من خمسين حليفا وشريكا في كل أنحاء العالم.
والمهمة القادمة هي اللعب على أوتار نقاط القوة المذكورة وتقديم ذلك النوع من القيادة الذي يسعى كثيرون حول العالم إليه والذي يستطيع الشعب الأمريكي دعمه. على مدى العامين الفائتين، وتحت رعاية المنتدى الاقتصادي العالمي، عملنا مع مجموعة متنوعة من الأمريكيين من الحزبين وممثلين من دول أخرى لنضع معا الخطوط العريضة لاستراتيجية لتجديد قيادة الولايات المتحدة. ليس هناك شيء سحري في مقترحاتنا. إن الاستراتيجيات المطلوبة للحفاظ على النظام الدولي الحالي هي إلى حد كبير نفس الاستراتيجيات التي أنشأت هذا النظام، ولكنها تحتاج إلى تكييفها وتحديثها لمواجهة التحديات الجديدة والاستفادة من الفرص الجديدة.
على سبيل المثال، إحدى المهام اليوم هي تعزيز الاقتصاد العالمي، وهو ما يستمد منه الشعب الأمريكي الكثير من الفوائد. وهذا يعني إقرار اتفاقيات التجارة التي تعزز العلاقات بين الولايات المتحدة والاقتصادات الكبيرة في شرق آسيا وأوروبا. وعلى عكس ما يدعي الدهماء في كلا الحزبين، فإن الأمريكيين العاديين يستفيدون كثيرا من الشراكة عبر المحيط الهادئ التي تم التفاوض بشأنها مؤخرا. وبحسب معهد بيترسون للاقتصاد الدولي، ستؤدي هذه الاتفاقية إلى زيادة الدخول الحقيقية السنوية في الولايات المتحدة بمقدار 131 بليون دولار. كما تحتاج الولايات المتحدة أيضا إلى العمل على إصلاح المؤسسات الدولية القائمة، مثل صندوق النقد الدولي، حتى تشعر القوى الاقتصادية الصاعدة مثل الصين بأن لها حصة أكبر فيها، وفي نفس الوقت تعمل مع مؤسسات جديدة مثل البنك الآسيوي للاستثمار في البنية الأساسية لضمان تعزيز المبادئ الاقتصادية الليبرالية بدلا من تقويضها.
وتقدم الثورة في مجال الطاقة، التي جعلت الولايات المتحدة واحدة من كبار الموردين في العالم، تقدم ميزة أخرى قوية. ففي ظل المزيج الصحيح من السياسات، يمكن للولايات المتحدة أن تساعد حلفائها في أوروبا وآسيا على تنويع مصادر إمدادات الطاقة وبالتالي يقللون من تعرضهم للتلاعب الروسي. ومن شأن دول مثل روسيا وإيران التي تعتمد بشكل كبير على صادرات النفط والغاز أن تضعف، شأنها شأن الدول الأعضاء في منظمة أوبك. وستكون النتيجة الإجمالية هي زيادة نسبية في قوتنا وقدرتنا على الحفاظ على النظام.
وقد أدرك العالم أن التعليم والإبداع والابتكار هي مفاتيح الرخاء، وينظر معظم العالم إلى الولايات المتحدة باعتبارها الرائدة في هذه المجالات. وهناك دول أخرى تريد الوصول إلى السوق الأمريكية والتمويل الأمريكي والابتكار الأمريكي. كما يسعى أصحاب الأعمال في كل أنحاء العالم إلى بناء أودية سيليكون خاصة بهم ومراكز ريادة أعمال على غرار المراكز الأمريكية. وبإمكان الحكومة الأمريكية أن تقم بعمل أفضل في التعامل مع القطاع الخاص بالتعاون مع الدول النامية. ويحتاج الأمريكيون إلى أن يكونوا أكثر، وليس أقل، ترحيبا بالمهاجرين. فالطلاب الذين يدرسون في جامعاتنا ذات الطراز العالمي ورجال الأعمار الذين يبتكرون في حاضناتنا التكنولوجية المتطورة والمهاجرون الذين يبحثون عن فرص عمل جديدة لأسرهم، كل هؤلاء يعززون الولايات المتحدة ويظهرون للعالم الفرص التي تتيحها الديمقراطية.
وأخيرا، تحتاج الولايات المتحدة إلى بذل المزيد من الجهد لطمأنة حلفائها أنها ستكون موجودة معهم دائما للدعم إذا ما واجهوا أي عدوان. كما يحتاج الخصوم المحتملون إلى أن يعلموا أنهم سيحسنون صنعا بدمج أنفسهم في النظام الدولي الحالي وليس بمحاولة تقويضه. ولكن تحقيق ذلك يتطلب إنهاء التشديد عل الميزانية وزيادة الإنفاق على الدفاع وعلى جميع أدوات الشؤون الدولية الأخرى. وهذا الاستثمار سيؤتي ثماره من خلال الأمن العالمي الذي سيحققه.
كل هذه الجهود مترابطة، وفي الواقع، فإن المهمة الأساسية للقادة السياسيين الذين يتسمون بالمسؤولية ستكون هي أن يبينوا كيف ستتكامل أجزاء المشهد معا: كيف تعزز التجارة الأمن، وكيف تساند القوى العسكرية الازدهار، وكيف تقوي إتاحة التعليم الأمريكي القوى المخصصة لعالم أكثر انفتاحا وحرية.
وقبل كل شيء، يحتاج الأمريكيون إلى أن نذكرهم بالأمر الأهم: هناك العديد من الملايين في جميع أنحاء العالم قد استفادوا من النظام العالمي الذي رفع مستويات المعيشة وفتح الأنظمة السياسية وحافظ على السلام العام. ولكن ليس هناك دولة ولا شعب استفاد أكثر من الأمريكيين. وليس هناك دولة لها دور أكبر من أمريكا تؤديه للحفاظ على هذا النظام للأجيال المقبلة.

إيفو دالدر :سفير الولايات المتحدة لدى حلف شمال الأطلسي من عام 2009 إلى عام 2013،
روبرت كاجان : زميل في معهد بروكنجز وكاتب عمود مشارك في صحيفة واشنطن بوست.