متى تصبح اللغة العربية في محل رفع فاعل؟

مقالات رأي و تحليلات الأحد ١٥/يناير/٢٠١٧ ٠٤:٠٠ ص
متى تصبح اللغة العربية في محل رفع فاعل؟

د. فيصل القاسم

مر قبل أيام اليوم العالمي للغة العربية. وفي هذه المناسبة الأليمة نتساءل: متى تصبح لغتنا العربية في محل رفع فاعل؟ لماذا كل هذا العبث بلغة الضاد؟ لا أريد أن أعود إلى نظرية المؤامرة. لكن ما يحدث للغة العربية على أيدي الكثير من الناطقين بها يجعل المرء يسترجع نظرية المؤامرة. وقد سمعت أساتذة كباراً من أمثال الدكتور حسام الخطيب يتحدث عن تآمر حقيقي على لغتنا. وهذا للأسف الشديد يحدث يومياً أمام أعيننا وبدم بارد جداً.

كم شعرت بحزن شديد وأنا أستمع مثلاً إلى المضيفين والمضيفات على متن خطوط الطيران العربية وهم يطلبون منا أن نربط الأحزمة أو عندما يريدون أن يعلمونا بموعــد هبوط الطائرة أو بدرجة الحرارة خارجها أو بإيضاح تعليمات السلامة. وإذا أحصينا الكلمات المستخدمة في هذه الحالة نجد أنها لا تزيد عن خمس جمل. لكن مع ذلك فالمضيفون والمضيفات المحترمات يفجرن في تلك الجمل البسيطة كوارث لغوية مرعبة. ولو سمعها أبو الأســـود الدؤلي أو غيره من النحاة لكانوا قد تململوا في قبورهم انزعاجا من هذا الوضع الذي آلت إليه لغة الضاد. فهناك أخطاء لفظية وقواعدية في كل جملة تقريبا إلى حد يجعل العارفين باللغة يظنون أن الأمر مقصــود. فهـــل يعقــل أن المضـــيف أو المضــــيفة لا يعرف أن حرف الجر مثلاً يجر ولا ينصب، وأن كل كلمة تأتي بعد (من إلى عن على) هي مجرورة وليست مرفوعة أو منصوبة؟ لماذا ينصبون الفاعل ويجرون المنصوب ويرفعون المجرور ويعبثون باللغة بهذه الطريقة الرهيبة؟ لماذا وصل بهم الأمر إلى هذا الحد؟
كم من المرات شعرت بأنني أريد أن أستدعي أحد المضيفين أو المضيفات لأعاتبهم بشدة على هذه الزلات اللغوية المشينة. كم يكلفهم من الوقت كي يتقنوا بضعة جمل بسيطة لفظاً ونحواً؟ ومما يزيد في غيظي وإحباطي أنهم عندما يرددون الجمل نفسها باللغة الإنجليزية أو الفرنسية لا يقترفون أي خطأ لفظي أو قواعدي، بل يبذلون قصارى جهدهم كي يظهروا بأنهم أفضل من الإنجليز في اللفظ واللهجة. أما في العربية فيطلقون العنان لجماحهم التخريبي كي يعيث فساداً في هذه اللغة المسكينة. لماذا يا جماعة؟ لماذا أصبحت لغتنا كالأيتام على مأدبة اللئام؟ لماذا هــذه الإهانات المتعمدة للغة الشعر؟
قد يكون الأمر محمولاً لو اقتصر على المضيفات على متن الطائرات، لكنه أكثر خطورة في الفضائيات العربية. فبعض الفضائيات تحث مذيعاتها كما سمعت على استخدام لغة عامية رخيصة ممجوجة بدلاً من اللغة العربية المحترمة. ولا داعي لذكر بعض الفضائيات التي تبدو مذيعاتها كما لو أنهن يتفنن في إيذاء اللغـــة العربيـــة وتخريبها. لكن هؤلاء المذيعات لا يترددن في إظهار عضــلاتهم اللغــوية في اللغات الأجنبية على الشـــاشة. فقد دهشت ذات مرة وأنا استمع لواحدة من تلك المذيعات وهي تتحدث في برنامجها بالإنجليزية. لقد حاولت قصارى جهدي أن أصطاد لها خطأ بسيطاً لكنني فشلت. فقد كانت انجليزيتها «تمام التمام» نطقاً وقواعد بحيث لا يمكن تمييزها عن الإنجليز أنفسهم، بالرغم من أنها تعلمت الإنجليزية في بلدها أيضا كما تعلمت العربية.

لماذا ترانا نتهافت على إتقان اللغات الأجنبية بينما نتهاون شر تهاون في تعلم لغتنا الأصلية؟ لماذا هذا الاستهتار باللغة العربية؟ هل يعبث الإنجليز أو الفرنسيون أو الألمان بلغاتهم لإرضاء الوافدين إلى بلادهم؟ أم إن هؤلاء الوافدين مجبرون على تعلم تلك اللغات بحذافيرها؟ فمعروف عن الألمان مثلاً أنهم لا يردون على أجنبي في بلدهم إذا خاطبهم بلغة أجنبية، وإذا ردوا فإنهم يردون بنوع من الاشمئزاز. إنهم يفترضون أن ذلك الأجنبي يجب أن يتعلم لغتهم، وإلا فهم لايحترمونه. إنه تعصب محترم للغة. فلماذا نساوم نحن على لغتنا إذاً؟

يجب علينا أن نردم الهوة بين الفصحى والعامية مع الاعتراف بصعوبة هذه المهمة. أما الذين يقولون إن لجوء البعض إلى العامية وإهمال اللغة الفصحى عائد إلى صعوبة اللغة العربية فهم أيضا ليسوا على صواب، فكل لغة فيها صعوباتها الخاصة بها. من قال إن الانجليزية لغة سهلة؟ من قال إن الفرنسية أو الروسية لغتان يسيرتان؟ إنهما لا تقلان صعوبة عن العربية. وكذلك الألمانية، مع ذلك الجميع يتحدث هذه اللغات بإتقان من نوع ما. هناك لغة عامة وليست عامية، أي أنها أقرب إلى الفصحى منها إلى العامية. وهي مناسبة للاستخدام في وسائل الإعلام ما دامت تحترم أساساً القواعد اللغوية. أما نحن فالطلاق حاصل عندنا بين الفصيح والعامي منذ عشرات السنين. فمن المسؤول عن هذا الضياع اللغوي والثقافي لدينا؟ ولماذا نسخر من الذين يتحدثون عن مؤامرة حقيقية على لغة الضاد؟
إلى متى تبقى لغتنا في محل مفعول به؟