الرَّجُلُ في شِعْر المرأة (2)

مقالات رأي و تحليلات الأحد ١٥/مايو/٢٠١٦ ٠٠:٢٧ ص
الرَّجُلُ في شِعْر المرأة (2)

زاهي وهبي

أستكملُ هنا ما بدأته في جزء الأول من هذه المقالة بشأن الظروف التي أحاطت تاريخياً بوضع المرأة وانعكست تالياً على نصّها الابداعي، وعلى كيفية حضور الرجل في هذا النص لا سيما شِعْر الحُبّ منه. إذ مقابل الاحتفاء بالشاعر العاشق وتعريفه بحبيبته، كأنْ يُقال: قيس ليلى، قيس لبنى، كثير عزَّة، جميل بثينة (وهذا جميل جداً). نجد أن المرأة العاشقة لم تكن على الدوام قادرة على البوح والإفصاح عما يجيش في صدرها تجنباً للمتاعب والأحكام المجحِفة. فما هو حلالٌ ومباحٌ للرجل في مجتمعات ذكوريّة أباً عن جد، محرَّمٌ وممنوع على المرأة وكأنهما لم يولَدا من نطفة واحدة. هكذا سمعنا طوال الوقت قصائد الشعراء العشّاق وعرفنا أسماء حبيباتهم، بل تخيلنا ملامحهن وقسماتهن من خلال قصائد حب وغزل برع أصحابها في تصوير معشوقاتهم وفي رَسْمِهُنَّ بالكلمات، بينما كان نادراً وشحيحاً ما وَصَل إلينا من شِعْر النساء قياساً بالكم الهائل من شِعْر الرجال، حتى هذا النادر والقليل اتسم بكثير من التعميم، أي أن قصيدة الحُــبّ عند المـــرأة الشاعرة لـــم تكن تفصــح عن معشوق محدد قيلت فيه القصيدة وله، وذلك خشية عار يلحق بها وبعائلتها(!).

يمكن اختصار المشهد على النحو التالي: الرجل الشاعر يقول قصيدة حبه لامرأة بعينها، امرأة لها اسم وملامح وسمات، فيما المرأة الشاعرة تقول قصيدة حبها لرجل مبهم غير واضح المعالم أو محدد السمات كي لا يُعرَف أو يُشار إليه بالبَنان، هكذا عرفنا بعض الشاعرات العاشقات من دون أن نعرف عشَّاقهن، ولعل خشية الشاعرة العاشقة من البوح يختصرها قول ليلى العامرية:

«لم يكن المجنونُ في حالةٍ

إلا وقد كنتُ كما كانا
لكنه باحَ بسرِّ الهوى
وإنني قد ذبتُ كتمانا»

ولو لم يَبح قيس بعشقه ويجاهر فيه على الملأ لما تجرأت ليلى على ذكره بالاسم، وهي في الأبيات التالية تؤكد أن شاعرية المرأة لا تقلُّ البتة عن شاعرية شريكها:

«باحَ مجنونُ عامرٍ بهواهُ
وكتمتُ الهوى فمتُّ بوجدي
فإذا كان في القيامة نُودي:
مَن قتيل الهوى؟ تقدَّمتُ وحدي».
مع ذلك تبقى نماذج كليلى العامرية أو عليّة أخت هارون الرشيد أو ولّادة بنت المستكفي حالات خاصة ساهمت في علو أصواتهن وجرأتهن مكانتهن الاجتماعية لجهة النسب والقبيلة أو السلطة الحاكمة.
محاولة المجتمع الذكوري إعلاء شأن الرجل وجعله قوّاماًً على المرأة حتى في شعورها وشِعرها كبتت صوتها وجعلته خفيضاً يُلمِّح ولا يُصرِّح، يومئ ولا يُفصِح. برهانُ ما أصاب شِعْر المرأة ما يُنسَب للفرزدق حين تناهى إليه أن فلانة تكتب شعراً: «إذا صاحت الدجاجة صياح الديك فلتُذبح». هذه المقولة ليست مجرد وَقْفٍ لِقول الشِّعر على الرجال، بل حكم بالإعدام على المرأة إذا «اقترفت» الشِّعر. فهل بعد هذا القول ما يُضاف حول ما تعرضت له المرأة تاريخياً من محاولات إسكات وإخراس. محاولات مستمرة للأسف في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، متجلببةً ثوب الدين بغير وجه حق نتيجة لطغيان التأويل الذكوري للنصِّ القرآني، وتحريم أي محاولة جدية لتأويلٍ إنساني لا يميز بين الجنسين، وينطلق من قراءة معاصرة للنص تنسجم وتطور الحياة، ومن فَهْمِ هذا التطور بوصفه سُنَّة من سنن الله جلَّ وعلا.
كلُّ ما تقدَّم لا يعني أن المرأة رضخت واستكانت ورضيت بالمشيئة الذكورية. على مَرِّ الأيام تعالت أصوات وبرزت أسماء متمردة ثائرة، لكن تلك المحاولات كانت الاستثناء لا القاعدة. حتى في عصرنا الحالي الذي حققت فيه المرأة كثيراً من الإنجازات ونالت الكثير من الحقوق، لا زال الواقع العربي يختزن ظلماً كبيراً واقعاً على النساء حتى لو كانت بعض شرائح المجتمع أكثر تفهماً وتقبلاً لحضور المرأة في المشهد الابداعي. فالسواد الأعظم من العامة لا يزال يرى في «قول» الرجل بطولات وأمجاد، فيما يرى في «القول» نفسه لدى المرأة عاراً وشيناً. نرسم هذه الصورة غير السارّة مع تقديرنا لأصوات نسائية مبدعة كسرت حاجز الكبت والمنع وقالت من خلال نصوصها الإبداعية كل ما تريد قوله وبَزَّت الرجال في براعتها وإتقانها، لكن المسألة تبقى مرهونة بتقدُّم المجتمع وتطوره كلاً لا يتجزأ، فما يُسعف السلطة الذكورية على فرض أحكامها ومفاهيمها وقيمها ليس فقط إمساكها بدفة الدين والسياسة، بل أيضاً شيوع الفقر والبطالة والأمية والتطرف والجهل والأصوليات المغرقة في تشددها. لسنا ضد الأصول بوصفها ينابيع عذبة يمكن العودة إليها، لكننا ضد محاولات جعل تلك الينابيع تتدفق نحو الماضي لا نحو المستقبل، ولا مستقبل لِأمَّة تقمع المرأة وتكبت إبداعاتها، إذ كيف لمجتمعٍ نصفُهُ يعطِّل نصفَهُ الآخر ألّا تكون مشيته عرجاء فلا يتمكن من اللحاق بركب الأمم؟
عودةً إلى سؤالنا الأسبوع الفائت (في ختام الجزء الأول من هذه المقالة) عن أي رجل تكتب الشاعرة العاشقة، نستطيع القول إنه حتى الأمس القريب كان المعشوق (إِلَّا نادراً) غير واضح المعالم والسمات، شبه مجهول الهوية والنسب، وذلك نتيجة لأسباب كثيرة منها ما أشرنا إليه ومنها ما ســنحاول تفصيله لاحقاً، لا سيما حين نأتي إلى محاولة فهم إذا ما كان الرجل ملهِماً للمرأة بالطريقة نفسها التي تمثِّلُ فيها المرأة ملهِمةً للرجل.
لستُ من هواة جلد الذات، بل أبحث دوماً عن مكامن الأمل ولو في بصيص خافت، وأعرف أن ثمة مبدعات عربيّات كبيرات قلن ما يردن بلا خوف ولا وجل وتجاوزن المعوقات والحواجز، وفي البال الآن أسماء مثل لميعة عباس عمارة وغادة السمّان على سبيل المثال لا الحصر، لكن مقابل مئات المبدعات العربيات اللواتي تجرأن على رفع الصوت تقبع ملايين النساء العربيات خلف قضبان الأعراف والتقاليد الذكورية المجحِفة، وتُوأدُ مواهب في مهدها. أكتبُ عن حالة عامة مظلمة_لسوء الحظ_رغم استثناءاتها المضيئة، حالة زادها حدة نكوص مجتمعاتنا بفعل فشل أنظمتنا وأحزابنا وحركاتنا السياسية في إقامة دولة مدنية عادلة وحديثة ما أتاح لتيارات الظلام المُعلَنة والمُستتِرة أن تتقدم الصفوف عائدة بها إلى الخلف.
ختاماً أود شكر الصديقة ميسم التي علّقت على المقالة الفائتة بقول صاحبة «قواعد العشق الأربعون» التركية إليف شفق: ‏»الكتّاب الرجال يجيئون إلى الأذهان ككتاب أولاً ثم كرجال، أما الكاتبات فإنهن إناث أولاً ومن ثم كاتبات». قولٌ لا يصلح فقط مِسكاً لِختام بل مطلعاً لمقالة الأسبوع الطالع، مع التذكير الدائم بقول الإمام الشـــافعي: «رأيي صوابٌ يحتمل الخطأ ورأيُ غيري خطأ يحتمل الصــواب»، يعني هي وجهة تجد بعض أسانيدها في نصوص المبدعات والمبدعين العرب، ما أكثرهم، وما أقلّ اهتمام أوطانهم بِهُنَّ وبِهم.