حـرب تركـــية بصـــناعـــة أمـريكيـــة

مقالات رأي و تحليلات الثلاثاء ١٣/فبراير/٢٠١٨ ٠٥:٢٥ ص
حـرب تركـــية

بصـــناعـــة أمـريكيـــة

باراك بارفي

مع تكثيف تركيا لحملتها العسكرية ضد المقاتلين الأكراد السوريين، يُصبِح من المغري أن نلقي اللوم عن كل هذا العنف على شوفينية الرئيس رجب طيب أردوجان الصارخة وكراهيته للأجانب. فقد حَذَّر أردوجان لفترة طويلة من أن تركيا لن تتسامح أبدا مع أي وجود عسكري كردي على الحدود الجنوبية للبلاد؛ وقد يبدو الهجوم الأخير وكأنه يشير إلى أن كلمات أردوجان تتحول الآن إلى أفعال على الأرض.

ولكن في حين أَمَر أردوجان بشن «عملية غصن الزيتون»، فإن الجاني الحقيقي كان تركيز الولايات المتحدة الذي يتسم بقِصَر النظر على قهر النزعة الجهادية الإقليمية. فبسبب الافتقار إلى سياسة متماسكة في التعامل مع سوريا، كانت الإدارات الأميركية المتعاقبة مصابة بهوس استهداف تنظيم (داعش) دون أن تضع في الحسبان العواقب والتبعات الكاملة المترتبة على تصرفاتها. ولم يكن توغل تركيا في شمال غرب سوريا سوى واحدة من هذه العواقب.
في يوليو من العام 2012، عندما استولى حزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني على سلسلة من البلدات الحدودية السورية، شعرت تركيا بالجزع الشديد. ذلك أن حزب الاتحاد الديمقراطي هو الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني، الذي يشن حرب عصابات ضد حكومة تركيا منذ العام 1984.
في مستهل الأمر، شاطرت الولايات المتحدة أردوجان مخاوفه. ففي أغسطس 2012، أعلنت وزيرة الخارجية الأمريكية آنذاك هيلاري كلينتون أن «سوريا لا يجب أن تتحول إلى ملاذ آمن للإرهابيين من حزب العمال الكردستاني». ولكن بعد استيلاء داعش على مساحات شاسعة من الأراضي في سوريا والعراق، وجدت أميركا في حزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني حليفا مفيدا. وسرعان ما قامت الولايات المتحدة بتزويد الجناح المسلح للحزب بالسلاح والتدريب.
وقد سعى أردوجان الذي أغضبته هذه التحركات إلى الحصول على تأكيدات بأن الدعم الأميركي للأكراد مؤقت، وأن المقاتلين الأكراد لن يعبروا نهر الفرات. ولكن بعد حصول الأتراك على الضمانات التي أرادوها، عبر الأكراد المدججين بالسلاح نهر الفرات على أية حال.
ثم في أغسطس 2016، وجه نائب الرئيس جوزيف بايدن توبيخا علنيا إلى مقاتلي حزب الاتحاد الديمقراطي، محذرا إياهم من خســـارة دعم الولايات المتحـــدة إذا لم يتراجـعوا. ولكن المقـاتلين لم يعودوا أدراجهــم قَط، وواصلت الولايات المتحــــدة تسـليحــهم وتدريبهــم. وفي أبريل 2017، أعلن أردوجان الغاضـــب أن إدارة أوبامــا «خدعت» تركيا بشأن حزب العمال الكردستاني. وتنبأ قائلا: لا أعتقد أن إدارة ترامــب سـتفعل نفــس الشيء».
لكن أردوجان كان مضللا مرة أخرى. فعلى الرغم من الوعود التي نقلتها التقارير بإيقاف نقل الأسلحة الأميركية، لم يغير الرئيس دونالد ترامب المسار، واستمرت الأسلحة الأميركية في التدفق إلى الأكراد.
لهذه الأسباب، فَقَد قادة تركيا الثقـة في أي شـيء تقوله حكومة الولايات المتحـــدة. والواقع أن البلدين لا يســـتطيعان حتى الاتفاق على مضــــمون مكالمـــة هاتفية بين الرئيسين، كما رأينا من الروايتين المتضاربتين لمحـــادثــة جرت بينهما الشـــهر الفـائت.
كيف وصلت العلاقات بين حليفين في منظمة حلف شمال الأطلسي إلى مثل هذه النقطة المتدنية؟
الواقع أن جزءا كبيرا من الإجابة يمكن تتبعه إلى رفض الرئيس باراك أوباما نشر قوات قتالية ضد داعش، وتوجهه بدلا من ذلك إلى ترك بصمة خفيفة من خلال استخدام قوات محلية بمعاونة الغارات الجوية الأمريكية والتدريب. وقد جربت الولايات المتحدة هذا النهج لأول مرة في العراق، ولكنه أفضى إلى نتيجة عكسية عندما نجحت قوات الحشد الشعبي العراقية في الاستيلاء على الأرض. وسوف تبلغ العواقب المترتبة على هذا القرار، والتي اختارت الولايات المتحدة تجاهلها إلى حد كبير، ذروتها في أبريل، عندما يخطط قادة قوات الحشد الشعبي لخوض الانتخابات البرلمانية في العراق.
في ســــوريا، أثبت الأكـــراد كونهــم وكيلا أكثر جدارة بالثقة. ولكن ولاءهم للولايات المتحدة لم يكن بلا تكلفة. كان أوباما على استعداد للتغاضي عن علاقات مقاتليهم بحزب العمال الكردســـتاني، مستخــدمـــا خيطا رفيعا للتميز بين جماعات لا يمكن التمييـز بينها. واختار أوباما، الذي لم يقدر مخاوف أردوجان حق قدرها قَط، معالجة مخاوف تركيا بشكل سطحي.
وعندما تولى ترامب الرئاسة، كان عدم اهتمامه بالتفاصيل وميله إلى الاستعراض واجتذاب آهات الإعجاب سببا في تفاقم التوترات. كانت إحدى السمات الأساسية لرئاسة ترامب رغبته في تملق ضيوفه والفوز بالحظوة لديهم من خلال عرض ما لا يستطيع تقديمه حقا (كما فعل خلال اجتماع عقد مؤخرا مع الديمقراطيين في الكونجرس حول الهجرة). ويبدو أن هذا الميل أسفر عن وعود بذلها ترمب لأردوجان لم يكن صانعو القرار في البنتاجون، الذين يوجهون السياسات الأميركية في التعامل مع العراق وسوريا، عازمين على الوفاء بها قَط.
ولكن على النقيض من المشرعين في الولايات المتحدة، يُسَيِّر أردوجان من حوله جيشا يتصرف وفقا لتقديره الشخصي. وتنظر تركيا إلى حزب العمال الكردستاني بوصفه تهديدا لوجودها، وتعتبر حزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني تابعا مهلكا له في سوريا. وكانت الرسائل الأمريكية المشوشة، التي يسلمها رئيس تعوزه الدبلوماسية والمهارة في التعامل مع الأمور السياسية الدقيقة، سببا في إضرام النار في علاقة بالغة الأهمية، وبالتالي تعريض المعركة ضد داعش للخطر. وعلى الرغم من ادعاء ترامب في خطاب حالة الاتحاد أن تنظيم داعش هُزِم تقريبا، فلا يزال نحو 3000 من مقاتلي التنظيم باقين في سوريا، ويستولون على الأرض أحيانا.
هذه السياسة الأمريكية باختصار هازمة لذاتها والغرض منها. فهي لا تشجع خصوم مثل إيران ووكلائها من قوات الحشد الشعبي فحسب؛ بل وتعرض للخطر أيضا نحو 2000 جندي أميركي يعملون مع الأكراد في سوريا.
الحق أن حس أوباما الغريزي لم يكن مخطئا. فالغزوات الكاملة النطاق نادرا ما تنجح في استئصال التهديد الجهادي. ولكن أسلوب التعاقد من الباطن مع مقاتلين محليين في سوريا، والذي تنتهجه أميركا في إدارة المعارك هناك، تسبب في خلق مخاطر جديدة. وإذا كان ترمب راغبا في الانفصال عن الماضي واكتساب الفضل الذي يدعيه لنفسه، فيتعين على الولايات أن تجد وسيلة جديدة لتحقيق أهدافها الأمنية دون نشر فِرَق بأكملها. ولكن في الوقت الحاضر، لا تقدم الولايات المتحدة لتركيا ــ والمنطقة ــ سوى عدم الاتساق والإرباك والمزيد من الوعود الفارغة.

زميل باحث لدى مؤسسة نيو أمريكا، حيث يتخصص

في الشؤون العربية والإسلامية.