ماذا استفدنا في رمضان؟

مقالات رأي و تحليلات الأحد ١٠/يونيو/٢٠١٨ ٠٣:٤٥ ص
ماذا استفدنا في رمضان؟

أحمد المرشد

قبل أيام من شهر رمضان المبارك، ناجينا جميعا المولى عز وجل بأن يبلغنا رمضان، ثم هل علينا الشهر الفضيل وقلنا «أهلا»، لتمر أيامه ولياليه المباركة، ليأتي اليوم الذي نتمنى فيه أن يتمهل في الرحيل، فضيفنا المبارك أقبل علينا بعد طول انتظار واشتياق وها هو يقارب على الرحيل، فطوبى لمن صام نهاره وقام ليله. وها نحن نعيش ما تبقى من العشر الأواخر نرصد المنافسات الشديدة بين الفضائيات حيث تبارت في عرض المسلسلات، منها الجيد الذي يعالج واقع ملموس، وآخر الهابط الذي لم يرق إلى الذوق العام، ولكن للأسف حظيت بنسب مشاهدة مرتفعة، ليست متابعة عادية بل بشغف شديد لدرجة أن هؤلاء تباروا في نقل مشاهد من تلك المسلسلات الهابطة وملئوا بها عالم السوشيال ميديا، وكأن أجهزة التلفاز لم تعد كافية للمشاهدة فأضافوا لها «اليوتيوب» وغيرها من مواقع الدردشة ليشغلوا عقولنا بما يشاهدونه من إسفاف.

ولعلي هنا أتذكر أكثر من قصة أرسلها الأصدقاء لي، منها حكاية «الفيلة» وما أكثرهم في رمضان، ولا تتعجبون من عنوان حكايتنا، ولنترك النقاش بعد سرد قصة «الفيلة». وتقول: جلس الإمام مالك بن أنس في المسجد النبوي كعادته يروي أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والطلاب من حوله يستمعون له بإنصات..فصاح صائح: جاء للمدينة فيل عظيم (ولم يكن أهل المدينة قد رأوا فيلا قبل ذلك، فالمدينة ليست موطناً للفيلة) فهرع الطلبة كلهم ليروا الفيل وتركوا مالكاً إلا طالب واحد هو يحيى بن يحيى الليثي فقط، فسأله مالك: لماذا لم تخرج معهم؟ هل رأيت الفيل قبل ذلك؟

قال يحيى الليثي: إنما رحلت لأرى مالكاً وأسمع منه لا لأرى الفيل.
انتهت القصة، ولكن بماذا نخرج منها من حكم بعد قراءتها بتروى؟ فجلسة الإمام مالك ضمت الكثير من طلاب العلم، ولكنهم جميعاً باستثناء يحيى الليثي شارك في الجلسات بدون أن يعلموا لماذا يحضرون جلسات العلم مع الإمام الكبير، باستثناء طالب واحد كان يعلم يقينا لماذا أتى وما هو هدفه؟. فهذا الطالب النابغة لم يشتت ذهنه ولم يذهب عقله مع الآخرين الذين هرولوا لرؤية الفيل وربما كان المنادي كاذباً. ولكن يحيى الليثي لم يتشتت ولم يبدد طاقاته يمنة ويسرة، بعكس أقرانه الذين اندفعوا يشاهدون الفيل، فانظر ما الفرق بين يحيى وأقرانه؟ فالأول حدد الهدف واستعان بالله ليبلغ مكانة عالية بين فقهاء العلم والدين فكانت رواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي عن الأمام مالك هي المعتمد للموطأ، أما غيره من الطلبة المتفرجين فلم يذكرهم لنا التاريخ.
ولعل قائل يقول وما هي العلاقة بين حكاية «الفيلة» والإمامين مالك بن أنس ويحيى بن يحيى الليثي وما ذكرناه في بداية الموضوع عن المسلسلات الهابطة؟.. العلاقة سهل رصدها، ففي زماننا هذا يتكرر الفيل، ولكن بصور مختلفة وطرائق شتى وخصوصا في رمضان، فالناس في هذا الشهر المبارك ينقسمان لنوعين: الأول قد حدد هدفه فهو يعلم ماذا يريد من رمضان وما هي الثمرة التي يتمني تحصيلها؟. والنوع الثاني غافل يبحث عن اللهو ويفرط في العبادات إذ تستهويه أنواع الفيلة المختلفة. فالفضائيات فيلة، وكذلك المسلسلات والأفلام الهابطة فيلة، ولم تختلف عنهم الغيبة والنميمة وأنواع المحرمات لأنها جميعها فيلة أيضا، وكل من يضيع وقته يدخل في عداد الفيلة، وطبيعي أن تكون مواقع السوشيال ميديا «الفيسبوك، والواتساب، الإنستجرام، يوتيوب وغيرها» فيلة هذا الزمان. فلنحذر كل هذه الفيلة وبريقها لأنها تسلب منا أفضل أوقات العبادة في العام وتضيع أوقاتنا في مالا يفيدنا بل يضرنا، وعلينا أن نحدد طريقنا ونتخذ من فكر الإمام يحيى بن يحيى الليثي طريقا ونبراسا لنا وهدفا على الأقل في رمضان، وما علينا الآن سوى الاستعانة بالله ولن نقف عاجزين عن فعل الخيرات ولحاق ما تبقى من الشهر المبارك كي لا نندم على كل ما فاتنا، وأعلم أن بداخل كل فرد فينا الإرادة الكافية ليحدد طريقه، إما يبقى مع أهل العلم والاستزادة منهم، وإما يسارعون لمشاهدة الفيل القادم، علما بأن العلم والإيمان باق والفيل كما في الرواية الأصلية لم يأت بعد ولكن مجرد ذكر اسمه شغل الطلاب عن الإنصات لإمامهم الكبير.

قد يرى البعض في حكاية «الفيلة» تشددا أو تطرفا في التفكير، بمعنى تحجيم الخيارات وليس تعددها، فإما مع الإمام لكي تكون صالحاً أو تاركا له لتكون طالحا، والخيار متروك للجميع ليحدد مصيره. ومن هنا نضع قصة أخرى للمقارنة مع حكايتنا الأولى. وإذا كان سبب المشكلة في «الفيلة» هو تسارع الطلبة إلى رؤية الفيل الذي آتى للمدينة، ففي حكاية الزلزال الذي ضرب اليابان في أبريل 2011، وكان مركزه محطة فوكوشيما النووية التي انهار أحد جدرانها، درسا آخر عنوانه التروي والانضباط. وقد تسبب الزلزال في موت وتشريد الآلاف وخلّف العديد من المآسي، غير أن الملفت في هذه المأساة هو تصرف الشعب الياباني بشكل يثير الإعجاب و الاحترام، فقد تميز رد فعله بالهدوء وضبط النفس، فلم يكن هناك صراخ بالشوارع أو نواح وإنما حزن يتسامى..كما اتسم رد فعل اليابانيون باحترام الطوابير و النظام رغم الظروف الصعبة فلم يكن هناك أي عراك أو سباب أو حوادث عنف، وعندما انقطعت الكهرباء أعاد السكان ما كانوا يحملونه الى الأرفف في المحال التجارية وخرجوا بهدوء..والمثير أن الجميع لم يتدافع لشراء كافة احتياجاته مرة واحدة، حيث تركوا لغيرهم ما يشترونه من بضائع حتى لا يحدث نقصا بالسلع المعروضة..ولعل من دلالات ضبط النفس الذي اتسم به اليابانيون،
أن الأسواق والمصارف لم تشهدا حالات نهب أو سرقة..ثم اتسم الإعلام الياباني وقت الزلزال وما بعده بدرجة كبيرة من المسؤولية، فلم يستغل تلك الكارثة لنيل المكاسب السياسية أو مهاجمة الحكومة آنذاك. ثم نأتي الى صفة مهمة وهي التضحية التي كان عنوانها حوالي خمسين عاملا في المحطة النووية رفضوا أن يتركوا مواقعهم واستمروا يضخون ماء البحر لتبريد المحطة تجنبا لانفجارها رغم المخاطر الواضحة واحتمال تعرضهم للموت حرقا واختناقا.بالإضافة الى ما سبق، لم تتسارع المطاعم لاستغلال الزلزال، بل خفضت أسعارها تضامنا منها مع المتضررين، وقد أفادت تقارير أمنية أن السكان قد سلموا الشرطة مبالغ كبيرة قد جمعوها من جثث موتى الأنقاض.

لم تأت كل هذه التصرفات من فراغ، فالمجتمع الياباني لم يكن بهذه السمات منذ حوالى قرن مضى، وإنما اكتسب الكثير منها نتيجة عقود من العمل المتواصل، فقد اسهم التعليم في غرس صفات كثيرة في اليابانيين، كما تعلموا من الحياة سمات جمة منها التدريب والتخطيط، وتم غرس قيم مجتمعية في النشء، واستفادوا من تجارب وأخطاء الآخرين وابتعدوا عن المهاترات التي تضيع الوقت و الجهد والمال و تنهك الشعوب دونما جدوى. فقد تعلم اليابانيون كيف يكفون عن الشكوى والتذمر وتبادل الاتهامات فيما بينهم وإصدار الأحكام، وسارعوا الى العمل الجاد ومحاسبة أنفسهم قبل أن يحاسبوا الغير، ليتركوا لنا الدرس لنتعلم أي طريق نسلك.
ختاما..كم منا كان منضبطا في هذا الشهر فرصة للاستزادة من العلم والعبادات، ومن لم يحكم عقله ويدرك الأمور جيدا ليهرول لمتابعة المسلسلات..لدينا «الفيلة» واليابانيون؟! مجرد تساؤل بدون أدنى مقارنة بين الاعتدال في التفكير وبين التشدد أو التطرف.

كاتب ومحلل سياسي بحريني