أزمة الفراغ

مقالات رأي و تحليلات الأربعاء ١١/يوليو/٢٠١٨ ٠٤:٣٧ ص
أزمة الفراغ

أ. د طارق الحبيب

خُلق الإنسان مكرَّماً ومزوَّداً بنعمة العقل، وقد جعل الله له الحاجات والميول والرغبات التي تدفعه كي يجعل له أهدافا يخطط لها ويصيغها كي تشبع رغباته وتحقق له الرضا الداخلي الذي من خلاله يستطيع التكيُّف والتعايش مع الحياة على اختلاف أحداثها ومواقفها.
إن طبيعة الإنسان وتكوينه النفسي والفكري يجعلانه في حالة دائمة من البحث والتقصي عمّا يشغل وقته، إلا أن التوجهات في إشغال الوقت لا تكون دائماً بالصورة الصحية والمقبولة.
ولا يخفى على الجميع في وقتنا الحالي ما يعانيه المجتمع وما يعانيه شبابنا من أمراض مجتمعية وفكرية جعلت الكثير في دائرة الخطر المتزايد؛ فقد انتشرت المخدرات والجرائم الأخلاقية كما انتشرت حالات التطرّف الفكري التي نتجت عنها الظواهر الشاذة التي نشاهدها في الآونة الأخيرة من قتل وذبح بدماء باردة وبمبررات واهية تعكس ضعف الهوية الشخصية كما تعكس انخفاض النضج الفكري وانعدام الهدف.
لقد انشغل الكثير في تفسير هذه الظواهر السلبية التي سادت وتسيّدت وذهب البعض إلى اقتراح الحلول، وتجاهل الكثير الأسباب الحقيقية المحرِّضة على تلك النكبات المجتمعية التي لم يخلُ مجتمع من ويلاتها.
إن أزمة الشباب الحقيقية في مجتمعنا لا يمكن تلخيصها في سبب ولا يمكن حصرها في أساليب تربية فقط، ولكن يمكن القول بأن كثرة المغريات وتعدد مصادر المعلومات والانفتاح المذهل على العالم مع قلة الوعي الحقيقي باحتياجات الشباب وعدم التصوّر الصحيح لمستوى طاقاتهم وانفعالاتهم من أهم أسباب التخبُّط الذي نشأ في ذوات البعض كردة فعل غير متعقّلة لبساطة ما يتلقونه من تربية ودعم خارجي يستوعب طموحهم.
ورغم أن الفاعل قد يبدو لنا هو المُتّهم الأول والمُذنب الأعظم، إلا أن السلبية في التعامل مع الشباب أوجدت في نفوسهم حالة من الفراغ الفكري والعاطفي والنفسي، الأمر الذي جعلهم عُرضة لاقتباس واقتناء وامتثال الاتجاهات المتطرِّفة التي وَجَدَ فيها بعضهم الإثارة التي قد تشغل العالم بهم.
وهذا التفسير ليس تبريراً لما يحدث وإنما نضع الأزمة في حجمها الحقيقي حتى يتسنى للمعنيين بالشباب احتواء نواقصهم حتى لا تستمر الأزمات وتنعدم الحلول.
إن وجود الحاجات المُلحَّة والمستمرة مع الإخفاق في توجيهها واستثمارها لا يخمدها ولا يقلل من وجودها، إنما ذلك قد يضخّمها ويجعلها خارج دائرة السيطرة والانضباط، لذلك أصبح التدهور والتمرّد والتطرّف سمة من سمات بعض الفئات الشبابية.
إن العنف والإجرام والتجاوزات الأخلاقية والفكرية بل وحتى العقائدية التي يمارسها البعض هي محاولة لاستعادة القوة والاحترام التي فقدها الشباب عندما عجز عن تقبّل تنصل بعض المربين والمفكّرين وبعض الأهالي والمحيطين عن أداء "مهمّاتهم" التربوية كما ينبغي.
وبهذا يمكن القول بأن أزمة الفراغ لم تقتصر على مشاعر الحزن والقلق والشعور بالتعاسة، بل تجاوزت ذلك ليقترف البعض ما يجلب له الْخِزْي دون إدراك للعواقب التي أضاعت حياة البعض بل وأضاعت آخرة بعضهم.
وفي عصرنا الحالي لم تعُد الأسرة أو المدرسة هما المؤثرات الحقيقية على الشباب، فهناك وسائل التواصل والإعلام والشخصيات المشهورة، كل أولئك تقع عليهم مسؤوليات جذب الشباب والارتقاء بهم لمساندتهم في استحداث الوسائل المباحة والمقبولة لتحقيق ذواتهم والوصول لما يريدون.
إن اللغة التي تستهوي الشباب هي اللغة التي تحترم ما بداخلهم من متطلبات واحتياجات من دون تهميش لدورهم في السيطرة على دوافعهم.

استشاري الطب النفسي في مركز مطمئنة في مسقط، الأمين العام لاتحاد الأطباء النفسيين العرب