انحدار وسقوط الخروج البريطاني

مقالات رأي و تحليلات الخميس ١٢/يوليو/٢٠١٨ ٠٥:١٢ ص
انحدار وسقوط الخروج البريطاني

جاسيك روستوسكي

في البداية، كانت لدى رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي خطة هي أن «خروج بريطانيا يعني خروج بريطانيا». فقد كانت الفكرة تتمثل في انسحاب المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي بسرعة كبيرة بحيث لا يشعر المصوتون بأنهم قد تعرضوا للخداع في أثناء حملة الاستفتاء على عضوية الاتحاد الأوروبي، ومن ثم لا يعاقبوا الحزب المحافظ لكذبه عليهم.

ومن المؤكد أن ماي أحرزت انتصارا في الآونة الأخيرة حينما واجهت بثقة أعضاء حزب المحافظين المعارضين للخروج من الاتحاد الأوروبي في مجلس العموم. ولكن لا يكاد يكون لذلك أي أهمية. فمنذ يونيو الفائت، كانت الحياة السياسية البريطانية تدور حول المعضلة نفسها: كيف يمكن تجنب التدمير المفاجئ لكثير من الصناعات البريطانية التي تعتمد على سلاسل التوريد الأوروبية عند الحاجة دون أن تقبل أيضا «نموذج النرويج» التي تنصاع لقواعد الاتحاد الأوروبي دون أن تكون لها أي كلمة في صياغة تلك القواعد.

ومن أجل مساعدة حكومة ماي على تجنب وقوع كارثة للصناعات البريطانية، تفضلت المفوضية الأوروبية بالموافقة على منح «فترة تنفيذ» قدرها 21 شهراً تلي الخروج الرسمي للمملكة المتحدة في 29 مارس 2019. وكانت الفكرة تتمثل في أن هذه الفترة ينبغي استخدامها لتسوية معظم تفاصيل العلاقة المستقبلية. إلا أن ماي أضاعت الفرصة بالفعل بمواصلة الإصرار على ما يسمى الخطوط الحمراء، التي تشمل رفض اختصاص محكمة العدل الأوروبية.
ومن منطلق تنبأهم بوقوع كارثة، اقترح مناصرو البقاء في الاتحاد الأوروبي في حكومة ماي «نموذج جيرسي»، الذي بموجبه تظل الصناعة البريطانية وحدها داخل الاتحاد الجمركي للاتحاد الأوروبي وفي السوق الواحدة وفي المنطقة المشتركة لضريبة القيمة المضافة، بينما تتقلص حرية حركة العمالة والخدمات. لكن ليس لهذا الاقتراح أمل في النجاح بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي الذي يصر على عدم إمكانية الفصل بين «الحريات الأربع» (حرية حركة البضائع، ورأس المال، والخدمات، والعمالة).
وسواء أدركت المفوضية الأوروبية أو حكومة ماي ا، فإن التعارض بين هدفيهما تعارض تام. فالبريطانيون يريدون أن يتخلى الاتحاد الأوروبي عن المبادئ التي تأسس عليها في مقابل 40 بليون يورو (46 بليون دولار) وعدم وجود حدود مشددة مع أيرلندا. ولكن نظراً لأن المملكة المتحدة قد ألزمت نفسها بتلك الامتيازات، فليس لدى الاتحاد الأوروبي أي سبب ليستمع إلى التماسها الخاص. ولو نقضت حكومة ماي التعهدات التي قطعتها في ديسمبر، فستواجه «خروجا من الاتحاد الأوروبي بدون صفقة». وستخرج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، وسيصيب الدمار كثيرا من قطاعات الاقتصاد البريطاني.
ولا تزال توجد ثلاث نتائج محتملة، منها نتيجتان بسيطتان ونتيجة واحدة معقدة. فيتمثل السيناريو الأول في أن تتنازل بريطانيا عن «خطوطها الحمراء» وأن تتبنى «نموذجاً مماثلاً لنموذج النرويج»، وفي تلك الحالة، لن تظل فقط داخل السوق الواحدة لكنها ستظل أيضا داخل الاتحاد الجمركي. أما في السيناريو الثاني، فستقبل المملكة المتحدة حدوداً اقتصادية في البحر الأيرلندي وتحتفظ بخطوطها الحمراء للبرّ الرئيسي لبريطانيا، وذلك بإبرام اتفاقية تجارة حرة مع الاتحاد الأوروبي. ومن المفارقات أنه يمكن لكل من المفوضية الأوروبية والمتعصبين من مؤيدي الخروج أن يتفقا على هذه النتيجة بالنسبة للبرّ الرئيسي لبريطانيا، ويُستثنى من ذلك أن مؤيدي الخروج المتعصبين يرفضون قبول وجود حدود بين البرّ الرئيسي لبريطانيا وأيرلندا الشمالية.
المخرج الوحيد إذن هو من خلال كارثة سياسية. وقد تحدث تلك الكارثة داخل أوروبا نتيجة لصراعات بين الدول الأعضاء الكبرى أو لمحاولات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تقويض الاتحاد الأوروبي. لكن تلك الكارثة الأوروبية لن تأتي في موعد مناسب بالنسبة إلى ماي ليضمن للملكة المتحدة ككل «نموذجا على غرار نموذج جيرسي». فمن المرجح بشدة أن تشهد بريطانيا نفسها قبل ذلك الحين كارثة بسبب زيادة وعي عامة الناس بما يلوح في الأفق من تكلفة اقتصادية واجتماعية باهظة في حالة الخروج من الاتحاد الأوروبي بدون صفقة.
وما إن تندلع تلك الأزمة وتبدأ الخطوط الحمراء لبريطانيا في التبدد، يمكن أن يلي ذلك أي عدد من النتائج المحتملة. حيث يمكن مد الفترة الانتقالية إلى 2025 مثلا ليتبعها إبرام اتفاقية تجارة حرة ووضع حدود اقتصادية في البحر الأيرلندي. أو يمكن تأجيل خروج بريطانيا نفسه لعدد من السنوات، ويكون في هذه الحالة الوصول إلى نموذج «مماثل لنموذج النرويج» هو الهدف النهائي. ومن جهة أخرى، قد يؤدي أي من هذين السيناريوهين إلى إجراء استفتاء ثانٍ وإلغاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بالكلية. ومن الواضح، على أي حال، أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وفقا لرؤية الجانب البريطاني له حاليا، أمر مستحيل. وإذا حدث، فلن يشبه أي شيء عرضته ماي حتى الآن.

وزير المالية البولندي ونائب رئيس الوزراء

في الفترة من 2007 إلى 2013.