عودوا إلى ابن خلدون

مقالات رأي و تحليلات الأحد ١٥/يوليو/٢٠١٨ ٠٤:١٨ ص
عودوا إلى ابن خلدون

أحمد المرشد

يخرج علينا بعض الخبراء الإستراتيجيين والعلماء بين الحين والأخر بدراسات ونظريات تتحدث عما سيحدث مستقبلاً أو يقولون عن تلك النظريات والأبحاث «رؤية لما هو قادم أو آت»، وقد تتحقق نبوءات هؤلاء وتكون واقعاً يشهده ويعيشه أهل الأرض وفي هذه الحالة يصعد نجم أصحاب تلك النظريات ونراهم محاضرين دائمين في كافة المراكز السياسية المتخصصة ويكتبون في كبريات الصحف والمجلات وضيوف بارزين في البرامج والحوارات التلفزيونية.

وإذا كنا غالباً ما نتحدث عن خبراء أو إستراتيجيين أجانب فهذا ربما يرجع لأوضاعنا الحالية حيث لم نعد أمة قال عنها رسولنا الكريم «خير أمة أخرجت للناس»، وليس أمامنا في هذه الحالة سوي العودة للماضي عندما كان الفلاسفة والعلماء العرب يتسيدون العالم آنذاك، ومثالنا هنا العلامة «ابن خلدون» رائد علم الاجتماع العربي ومؤسس واحداً من أهم العلوم الإنسانية في العالم وليس الفرنسي أوجست كونت كما يشيع الغرب، ونشير فقط الي بعض ما جاء في مقدمة ابن خلدون الشهيرة لمؤلفه الضخم « كتاب العبر.. وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر»، فهو يتحدث عن حالنا اليوم وكأنه يعيش معنا ولم يغادر دنيانا ويعرف خبايانا وكل أسرارنا. وتناولت تلك المقدمة التي اعتبرت لاحقا مؤلفا منفصلا نظرا لطابعها الموسوعي، جميع ميادين المعرفة من الشريعة والتاريخ والجغرافيا والاقتصاد والعمران والاجتماع والسياسة والطب.. لقد كتب ابن خلدون في مقدمته المشار إليها عام 1377 م بعض الجمل والتي إذا اطلعنا عليها اليوم لأصابتنا الصدمة من هول واقعنا الذي قرأه مؤسس علم الاجتماع العربي والعالمي ولم نقرأه نحن، ومن هذه الجمل:

«عنـدمــا تـكثــر الجبــايـة تشرف الدولة على النهـايــة» «عندما تنهار الدول يكثر المنجمون والمتسولون والمنافقون والمدّعون، والكتبة والقوّالون، والمغنون النشاز والشعراء النظّامون، والمتصعلكون وقارعو الطبول والمتفيهقون (أدعياء المعرفة)، وقارئو الكفّ والطالع والنازل، والمتسيّسون والمدّاحون والهجّاؤون وعابرو السبيل والانتهازيون».
«تتكشف الأقنعة ويختلط ما لا يختلط، يضيع التقدير ويسوء التدبير،وتختلط المعاني والكلام، ويختلط الصدق بالكذب والجهاد بالقتل»
«عندما تنهار الدول يسود الرعب ويلوذ الناس بالطوائف، وتظهر العجائب وتعم الشائعات، ويتحول الصديق الى عدو والعدو الى صديق،ويعلو صوت الباطل، ويخفق صوت الحق، وتظهر على السطح وجوه مريبة، وتختفي وجوه مؤنسة،وتشح الأحلام ويموت الأمل، وتزداد غربة العاقل وتضيع ملامح الوجوه، ويصبح الانتماء الى القبيلة أشد التصاقا، والى الأوطان ضربا من ضروب الهذيان».
«يضيع صوت الحكماء في ضجيج الخطباء والمزايدات على الانتماء ومفهوم القومية والوطنية والعقيدة وأصول الدين، ويتقاذف أهل البيت الواحد التهم بالعمالة والخيانة، وتسري الشائعات عن هروب كبير، وتحاك الدسائس والمؤامرات وتكثر النصائح من القاصي والداني، وتطرح المبادرات من القريب والبعيد، ويتدبر المقتدر أمر رحيله والغني أمر ثروته، ويصبح الكل في حالة تأهب وانتظار ويتحول الوضع الى مشروعات مهاجرين، ويتحول الوطن الى محطة سفر والمراتع التي نعيش فيها الى حقائب والبيوت الى ذكريات والذكريات الى حكايات».
والسؤال: هل ما ذكره ابن خلدون يحتاج إلى شرح أم أنه يفسر نفسه بنفسه؟، الإجابة الحقيقية ولعلها الإجابة الوحيدة وهي هنا إجبارية وليست اختيارية، أن كل ما جاء به واقع نعيشه حاليا ولسنا بحاجة إلى تفسير، فواقعنا العربي يؤكد ذلك وليس علينا سوي النظر حولنا، فنحن لسنا بحاجة إلى غيرنا ليشرح لنا أحوالنا فنحن أدري بها.
والسؤال الثاني: هل ندرك لماذا قرأ ابن خلدون حالنا قبل نحو 6 قرون؟ الإجابة بسيطة، فهو وكما تقول الدراسات عنه تناول في مقدمته أحوال البشر واختلافات طبائعهم والبيئة وأثرها في الإنسان، وتطرق إلى تاريخ تطور الأمم والشعوب ونشوء الدولة وأسباب انهيارها، ليسبق غيره من المفكرين إلى العديد من الآراء والأفكار. لقد تمكن ابن خلدون عبر مجموعة النظريات التي وضعها في مؤلفاته المختلفة حول بناء الدولة وأطوار تأسيسها وسقوطها، أن يوضح لنا أن المجتمعات البشرية تسير وتمضي وفق قوانين محددة، وأن هذه القوانين تسمح بقدر من التنبؤ بالمستقبل إذا ما تم دراستها جيدا.
وفي تقديري أن ابن خلدون مزج مهارات التحليل الاجتماعي والسياسي بالعلم مستخدما طرق علمية متقدمة جداً منذ ذاك الوقت بهدف الوصول الى نتائج ومخرجات ناجحة في التحليل الاجتماعي السياسي، وتقديري أيضا أنه ربما تخيل عبر تجميع خبراته المتراكمة وقراءاته عن نهوض وسقوط الإمبراطوريات المختلفة، جزء من واقعنا بعد أن رسم لوحة متكاملة من المعلومات سواء الفرضية أو الحقيقية لغرض القراءة الموضوعية المستندة على قيم معلوماتية دقيقة وتحليل دقيق لابد أن يقسم الواقع السياسي إلى واقع سياسي داخلي وآخر إقليمي متاخم وكذلك واقع سياسي دولي واسع.
وإذا كان المحلل السياسي يشخص مفردات وعناصر الواقع السياسي ويصنفها حسب تأثيرها وحجم القوة الفاعلة في سير التطورات والأحداث، فعالم الاجتماع ونحن نتحدث عن ابن خلدون استخدم كل مهارات التحليل والتقدير للخروج بنتائجه سالفة الذكر حيث توقع فيها حدوث مثل هذه الظواهر والأزمات والأشخاص والرموز والقوى الحاكمة والفاعلة في المجتمعات. فقد اعتبر ابن خلدون البيئة العربية وحدة واحدة تتعرض لعوامل ومتغيرات ومؤثرات داخلية وخارجية واحدة، باعتبار أن البيئة العربية كلها تقع داخل حدود الدولة الواحدة، ومن ثم يمكن إخضاعها للدراسة والتجريب والتحليل للخروج بالنتائج بما يخدم ربما صناع القرار في عصره لو كانت الدراسة آنية، أو حكام المستقبل إذا كانت الدراسة تتجاوز زمانه.
وحتى لا يتهمنا البعض بأننا نركن إلى نبوءات ابن خلدون قلبا وقالبا واعتبارها واقع لا مخرج منه، فنحن وإذ ننبه الأمة لا نريد ذلك إلا إصلاحا لأحوالها، وما ننقله عن العلامة العربي هو تحديد ما نريده من أمتنا الكبيرة – عربيا وإسلاميا – مبتغاه التنبيه لضرورة أن ترسم بسواعدها وعقولها ما تريده، هل تكون أمة اقتصادية قوية؟..أم أمة سياسية قوية؟..رغم أن الاقتصاد حاليا يرتبط بالسياسة، فالاتحاد السوفيتي لم يكن قوة عظمي سياسيا فقط بل تزامن هذا مع بروزه كقوة اقتصادية في العالم وكذلك الولايات المتحدة الأمريكية التي تظل قوة عظمي لاحتفاظها بكامل قواها الدولية والإقليمية وتحكمها بالاقتصاد الدولي، وأمامنا بروز الصين كقوة اقتصادية الذي تزامن مع تمدد الصين سياسيا حول العالم بدءاً من جيرانها الآسيويين وصولاً للقارة الأفريقية. فشركات الدول مع بقية المجتمعات تساهم في صنع مستقبلها، وهكذا فعلت الإمبراطوريات العظمي، مع ملاحظة فترات ازدهار هذه الإمبراطوريات حيث كانت تقوم علي الاستقرار والتعايش والتسامح والاعتدال.
وما علينا كأمة كبيرة – عربياً وإسلامياً – سوي البحث عن مستقبلنا بعد دراسة لغة الحاضر وبحث ما في جعبتنا من عناصر قوة تجعلنا في مصاف الأمم المتقدمة والقوية، لأنه بهذا نعد أنفسنا جيدا لأن نكون شركاء في المستقبل وحصد ما نستحقه من مكانة ومهابة ولنعوض ما وقفناه في طوابير انتظار مساعدة من هذه القوي أو تلك، فالاستسلام لواقع مؤلم أمر صعب وبإمكان العرب والمسلمين تجاوزه بشرط تجميع قوتنا وقدراتنا لنصعد بها إلى المستقبل الذي نستحقه. فربما نبدأ اليوم دراسة موقعنا غداً على الخريطة العالمية، والأهم أن نكون فاعلين في رسم هذه الخريطة وليس مجرد نقاط فيها يضعها الآخرون لنا.. وفي هذه الحالة لن نندم على ما تنبأ به ابن خلدون وكأنه يتجسس علينا كما كتب أحد السياسيين في مدونته الخاصة، لأننا سنقرأ مستقبلنا مستفيدين بدروس ماضينا لنطور آلياتنا وأسباب قوتنا لنخرج للعالم بفكر جديد عن العرب والمسلمين يجعله ينسي رؤيته القديمة عنا.

كاتب ومحلل سياسي بحريني