انكسوا راية التشدد

مقالات رأي و تحليلات الخميس ٠٩/أغسطس/٢٠١٨ ٠٤:٠٠ ص
انكسوا راية التشدد

فريد أحمد حسن

الحقيقة التي ينبغي تأكيدها في كل حين هي أن كل من رفع راية التشدد فيما يخص أي قضية أضر بها وبمن له بها علاقة. لولا رفع تلك الراية لانحلت القضية الفلسطينية منذ زمن بعيد، ولولاها لانحلت كل القضايا في كل البلاد العربية بما فيها القضية الجديدة التي أضرت بمنظومة مجلس التعاون وتهدد بالقضاء عليها وتسببت في إيجاد شرخ يتسع بين شعوب التعاون الخليجي بل بين الشعوب العربية كلها، فلولا التشدد الذي رفعت رايته أزمة مجلس التعاون الحالية لما دخلت عامها الثاني ولا يزال الغموض يلف نهايتها، ولولا راية التشدد لأمكن على الأقل عقد اللقاءات الممهدة لنهايتها بين المسؤولين في الدول ذات العلاقة.
كل قضية تتعقد هي نتاج التشدد الذي يرفع البعض رايته، فالتشدد في أبسط صوره يعني إلغاء المساحة التي يمكن الاستفادة منها في التقارب والتفاهم والتفكير في الحلول. رفع راية التشدد يعني اتخاذ قرار بعدم قبول الحل الوسط وعدم تقديم التنازلات وإن كانت بسيطة، ويعني أن الأطراف ذات العلاقة بالقضية أو بعضهم يؤمنون بأن الحل يأتي عبر كسر العظم وليس عبر أي طريق آخر، ولأن كسر العظم يصعب تحققه في أغلب القضايا لذا فإنها لا تجد طريق النهاية وتستمر وتتعقد وتزداد تعقيدا.
كل الفرص التي توفرت على مدى عمر القضية الفلسطينية والتي كان يمكن أن تنهيها ضاعت بسبب رفع البعض لتلك الراية البغيضة، وكل التعقيد الذي صارت فيه هذه القضية سببه إصرار البعض على التشدد وإضاعة الفرص التي من طبيعتها أنها لا تتكرر. الأمر نفسه يتكرر اليوم في العراق وسوريا واليمن ولبنان وليبيا ومنظومة مجلس التعاون الخليجي، ففي كل هذه الدول ترتفع راية التشدد فتستمر تلك القضايا وتتعقد حتى يبدو حلها مستحيلا.
القبول بالحل الوسط في أي قضية ينهيها أو على الأقل يوفر الأجواء التي تعين على إيجاد نهاية لها، والقبول بالحل الوسط وتقديم التنازلات لا يعني الهزيمة أبدا، إذ ليس كل ما يريده الأطراف ذات العلاقة بالقضية يتحقق، فكما أن هذا الطرف لا يقبل بالخسارة فالأكيد أن الطرف الآخر لا يقبل بها أيضا، وكما أن وصول أي طرف إلى النهاية التي يريدها أمر صعب التحقق ويبلغ غالبا حد الاستحالة، لذا فإن اعتقاد أي طرف في أي قضية بأنه يمكن أن تنتهي لصالحه يعني أنه يفكر بعيدا عن الواقع وينظر إلى الأمور بمنظار يعاني من الغبش.
نهاية القضية الفلسطينية لا يمكن أن تكون لصالح الفلسطينيين والعرب ولا يمكن أن تكون لصالح إسرائيل، فلا مفر من اقتسام كل شيء والتشارك في بعض الشيء، ونهاية القضايا العربية في كل تلك الدول ومنها منظومة مجلس التعاون لا يمكن أن تكون لصالح طرف من أطرافها وحده، فلا مفر من الجلوس إلى طاولة واحدة وتقديم التنازلات والاستفادة من المساحة المعينة على تقريب وجهات النظر. وكما أنه لا يمكن للفلسطينيين والإسرائيليين ربح القضية بكسر عظام بعضهم البعض فإنه لا يمكن لأي طرف في أي قضية كسر عظام الطرف أو الأطراف الأخرى وتحقيق النصر المؤزر.
عمليا كل ذوي العلاقة بأي قضية من مثل هذه القضايا خاسر، والأفضل والأعقل دائما هو القبول بالخسارة المحدودة اليوم لأن الخسارة في الغد تكون أكبر، فالغد سيأتي ولكن بعد أن يكون الزمن الذي سبقه قد فعل فعله في القضية وعقدها بسبب دما رأى من أطرافها تلك الراية التي إن رفعت انتفى كل حل مأمول، فالحل لا يمكن أن يأتي في حضور تلك الراية البغيضة.
كل القضايا التي تمكن أطرافها من حلها تحقق لهم ذلك بعدما أزاحوا راية التشدد جانبا ونظروا إلى الأمور بواقعية، وكل القضايا التي لم يتم بعد التوصل إلى حلها يعني أنه لا يزال هناك من يرفع راية التشدد ويصر على تحقيق ما لا يمكن تحقيقه مهما حصل. القضايا تحل بالنظر إليها بواقعية وبتقديم التنازلات وإن كانت صعبة ومرة وبالتحرر من العواطف والانفعالات وبالنظر إلى الأمور بعقلانية وإلى المستقبل بتفاؤل، لكنها أبدا لا تحل برفع راية التشدد، حيث التشدد في أي قضية يعني أخذها إلى التعقيد وإلى حيث لا يتوفر الباب الذي يمكن أن يفضي إلى حيث تكون النهاية.
الوزير المسؤول عن الشؤون الخارجية العماني يوسف بن علوي قال ذات مرة جوابا عن سؤال عن الموعد الذي يتوقع أن تنتهي فيه المواجهات بين أطراف بعض القضايا في المنطقة، قال ما معناه إن الأطراف ذات العلاقة سيستمرون في الحرب إلى أن يتعبوا ثم سيجلسون إلى طاولة تجمعهم لتدارس الحلول الممكنة. وهو ما يعني أن الأفضل من الاستمرار في المواجهات وتحمل الخسائر البشرية والمادية وخسارة الوقت وكل المكاسب التي تحققت سابقا هو تغليب العقل والنظر إلى الأمور بواقعية وبإنزال راية التشدد ودفنها. وهو ما ينطبق على كل القضايا التي أولها القضية الفلسطينية التي شبعت تعقيدا بسبب تلك الراية البغيضة، وليس آخرها القضية التي صارت تؤثر سلبا على حياة مواطني مجلس التعاون الخليجي بسبب الراية نفسها.
الخير ليس في التشدد ولكنه في إعمال العقل وفي النظر إلى الأمور بواقعية وفي رفع راية التفاهم والتصالح مع الحياة التي هي في كل الأحوال قصيرة وتزيدها راية التشدد قصرا.

كاتب بحريني