بولندا وديكتاتورية الأسطورة

مقالات رأي و تحليلات الخميس ١٦/أغسطس/٢٠١٨ ٠١:٥٧ ص
بولندا وديكتاتورية الأسطورة

سوافمير سييراكافسكي

لا مفر من التاريخ في بولندا. في جلسة عُقِدَت بشكل مفاجئ في أواخر يونيو، أقر مجلس النواب البولندي على عَجَل تعديلا لقانون مؤسسة الذاكرة الوطنية، والذي ألغى تعديلا آخر جرى إقراره في يناير من هذا العام. واعتبارا من تاريخ إقرار التعديل الأخير، لم يعد إلقاء اللوم على بولندا عن الجرائم التي ارتكبها النازيون في الحرب العالمية الثانية جريمة يُعاقَب عليها مرتكبها بالسجن لمدة ثلاث سنوات.
الواقع أن مسارعة حزب القانون والعدالة الحاكم إلى تجريد "قانون الذاكرة" من أنيابه لم يكن مفاجئا. فقد أثار التشريع الأصلي الغضب الدولي، وخاصة من جانب إسرائيل. وحتى الرئيس الأميركي دونالد ترامب ــ الصديق المقرب عادة من القوميين في بولندا ــ أشار إلى أنه لن يلتقي بالزعماء البولنديين إلى أن تُحَل الأزمة.
ومع ذلك فإن الطريقة التي تعاملت بها الحكومة البولندية مع القانون وتعديله كانت سخيفة. فقد جرت العملية بالكامل في تكتم شديد، حتى أن وكالات الاستخبارات في بولندا وإسرائيل تولت إدارة الوساطة في العلاقات بين البلدين، خشية أن ينتبه إلى هذه الجهود نصير القانون الرئيسي، وزير العدل البولندي زبيجنيو زيوبرو.
يُعَد زيوبرو المنافس الأساسي لرئيس الوزراء البولندي ماتيوس موراويكي في المعركة من أجل النفوذ مع رئيس حزب القانون والعدالة ياروسواف كاتشينسكي. ولهذا، فعندما جرى إقرار التعديل الجديد، لم يتردد موراويكي في نسب الفضل إلى نفسه في إنقاذ صورة بولندا. وقد وقع هو ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على إعلان مشترك ينهي الخلاف بين البلدين؛ واشترت الحكومة البولندية إعلانات على صفحة كاملة في الصحف الكبرى في مختلف أنحاء العالَم، بما في ذلك الصحف اليومية الثلاث الأكبر في إسرائيل ــ للترويج لنص البيان.
ومع ذلك، بمجرد أن بدا الأمر وكأن الحكومة البولندية تجاوزت مشكلتها، سارع مركز إحياء ذكرى الهولوكوست في إسرائيل، ياد فاشيم، ووزير التعليم وشؤون الشتات، نفتالي بينيت، إلى إصدار إدانات حادة للإعلان المشترك. وقد تصادف أن المعارضة الإسرائيلية هي التي أطلقت حملة إدانة قانون الذاكرة في بولندا، وما كان بوسع نتنياهو إلا أن يجاري هذه الحملة لأنه لم يكن لديه خيار آخر.
في هذا الحدث، كان نتنياهو ــ وهو زعيم شعبوي ــ حريصا على حل النزاع مع حكومة حزب القانون والعدالة، لأنه لم يكن يريد تنفير الحليف الأكثر إخلاصا لإسرائيل في الاتحاد الأوروبي. ويفسر هذا لماذا كان الإعلان المشترك حريصا على التأكيد على إسناد المسؤولية عن معسكرات الموت النازية إلى الألمان فقط. وعلاوة على ذلك، يبدو وكأنه يوحي بأن شر معاداة القومية البولندية يماثل إلى حد ما معاداة السامية.
من المثير للاهتمام أنه في حين تعترف النسخة البولندية من البيان بأحداث فردية من "القسوة ضد اليهود" من قِبَل بولنديين، تقول النسخة العبرية "نحن نقر وندين كل حالة من حالات القسوة". ولكن كلا من النسختين تذهب على الفور إلى "تذكر أحداث بطولية قام بها العديد من البولنديين، وخاصة الصالحون بين الأمم، الذين خاطروا بحياتهم لإنقاذ اليهود".
في القِسم التالي، هناك إشارة مستترة إلى "المبتزين" الذين "بصرف النظر عن أصلهم، أو دينهم، أو نظرتهم للعالم ــ كشفوا عن أشد جوانبهم إظلاما". وفي المقابل، كانت اللغة في ما يتصل بالبطولة البولندية متماسكة للغاية، وكانت تحتضن الأمة كلها. فقد "أنشأت الدولة البولندية السرية تحت إشراف الحكومة البولندية في المنفى آلية لتقديم المساعدة والدعم بانتظام لليهود، وأصدرت محاكمها أحكاما ضد بولنديين بتهمة التعاون مع سلطات الاحتلال الألمانية، بما في ذلك لشجب اليهود".
وهو تاريخ مختلق. فكما يلاحظ بينيت، في حين ساعد بعض البولنديين اليهود، فإن "هذه الأنشطة كانت قليلة وغير مركزية". وبالتالي فإن الإعلان المشترك يتعامل على نحو غير صحيح مع "العطوفين النادرين" باعتبارهم يمثلون "ظاهرة شائعة"، في حين يتعامل مع "الأحداث الواسعة الانتشار التي شملت بولنديين قاموا بتسليم اليهود" باعتبارها "أفعالا نادرة".
ويدعم توصيف بينيت بحث شامل بعنوان "ليلة بلا نهاية: مصير اليهود في مقاطعات مختارة من بولندا المحتلة"، وهو عبارة عن كتاب تاريخ من مجلدين تولى تحريره يان جرابوفسكي وبربارا إنجلكينج من المركز البولندي لأبحاث الهولوكوست. ووفقا للسجل الوارد في الكتاب الذي ضم تسع مقاطعات بولندية احتلتها ألمانيا، فإن ثلثي اليهود (250 ألف يهودي) الذين فروا خلال "التصفية" النازية لأحياء اليهود في العام 1942 قُتِلوا بحلول العام 1945، وأغلبهم على يد بولنديين أو بمشاركة من بولنديين.
بطبيعة الحال، يشير مؤيدو البيان المشترك إلى أن مركز ياد فاشيم ذاته اعتبر عدداً كبيراً من البولنديين (6863)، أكثر من أي جنسية أخرى، من "الصالحين بين الأمم" الذين ساعدوا اليهود. لكن هذا محض احتيال. كانت بولندا موطنا لأكثر من ثلاثة ملايين من اليهود قبل الحرب، وقد بنى الألمان معسكرات الموت على أرض بولندية. من أين إذن قد يأتي "الصالحون بين الأمم" إن لم يأتوا من بولندا؟
لا شيء من هذا يعني أن البولنديين في مجموعهم أسوأ أو أفضل من أي جنسية أخرى. والواقع أن المؤرخ تيموثي شنايدر من جامعة ييل، والذي لا يمكن اتهامه بأنه يحمل مشاعر معادية لبولندا، خلص إلى أن البولنديين تصرفوا بشكل أو آخر على نفس النحو الذي كان ليصدر عن أي شعب آخر في ظروف مماثلة.
الحق أن البطولة نادرة، وهذا على وجه التحديد ما يجعلها تستحق ألقاب التشريف السامية. وإذا كان لأي بلد بالكامل أن يُعَد بطوليا، فإن المصطلح يفقد كل معانيه. ويصبح كفاح كاتشينسكي وموراويكي اليائس لصقل مكانة بولندا التاريخية جهدا ضائعا. وكما يذكرنا شنايدر، فإن زعيم الحركة السرية البولندي فلاديسواف بارتوزيفسكي هو الذي ربما عبر عن الأمر على أفضل وجه: "إن الأفراد الذين عملوا نيابة عن يهود لم يطلبوا الإذن أولا من الدولة البولندية للقيام بذلك".

مؤسِّس حركة "كريتيكا بوليتيكانا"، ومدير معهد الدراسات المتقدمة في وارسو، وزميل أكاديمية روبرت بوش في برلين.