الأغاني الوطنية.. وحب الأوطان

مقالات رأي و تحليلات الأحد ١٤/أكتوبر/٢٠١٨ ٠٣:٢٧ ص
الأغاني الوطنية..

وحب الأوطان

أحمد المرشد

يخطئ من يعتقد أن الأغنية الوطنية هي نتاج العصر الحديث أو ما بعد عهود الاستعمار، لأن الأغنية الوطنية قديمة قدم الزمن، فكانت النساء في العصور القديمة يقرعن الطبول لحظة مغادرة الجند القرى والمدن إلى القتال، ليس هذا فقط بل كانت النساء تنشد الأناشيد لحفز الجنود على القتال والشجاعة على مهاجمة الأعداء. فالأغنية الوطنية نشأت بنشوء الصراع والقتال بين العصبيات والقوميات، وفي مصر ربما كان سيد درويش أول من لحن الأغاني الوطنية الذي غني له المصريون العام 1919 أغنية «قوم يا مصري» ليدغدغ بها مشاعرهم وحشدهم لمواجهة الاحتلال الإنجليزي.

ولعل عبد الحليم حافظ من أشهر مطربي الأغاني الوطنية أو الحماسية، والذي لقبوه في مصر «مطرب ثورة يوليو»، ولم لا؟.. فقد ساهمت أغانيه بقدر كبير في زيادة شعبية الزعيم الراحل جمال عبد الناصر وربطت شعبه به، فكان حليم سباقاً للغناء في كل مناسبة وطنية وساعده في هذا الشاعر صلاح جاهين والملحن كمال الطويل وغيرهم الكثير. فالأغنية الوطنية في مصر تحديدا بدأت قبل ثورة يوليو ولكنها انتشرت بعد الثورة انتشارا كبيرا وتبارى جميع المطربين في أدائها خاصة وأنها كانت تحقق نسبة استماع مرتفعة جداً ناهيك عن ارتباط المطربين وقتها بالسلطة الحاكمة، وقد تألق جميعهم تقريباً في غناء تلك الأغاني ولكن لا أحد يباري عبد الحليم على الساحة سواء خلال فترة عبد الناصر أو منذ نكسة 1967 وحتى انتصار السادس من أكتوبر لحين إعادة افتتاح قناة السويس، فقد قدم نحو 15 أغنية وطنية من بينهم (النهار وابنك يقول لك يا بطل هات لي النهار وصباح الخير يا سينا واحلف بسماها وبترابها وخلي السلاح صاحي).

ويكتب للأغنية الوطنية أنها موروث ثقافي يتبادر إلى الذهن مع كل مناسبة تمر بها أي بلد لتزيد من مشاعر حب الأوطان بكلماتها القوية وموسيقاها وطريقة أدائها، كما تعد الأغنية الوطنية تأريخا للأحداث السياسية التي مرت بها البلاد وتؤثر وتتأثر بكافة المتغيرات الموجودة وتساهم بقدر كبير في تعبئة الشعور الوطني والقومي في جميع المتغيرات والأحداث السياسية.
وتعد ثورة 1919 من أهم الأحداث المصرية التي أثرت في مجال الأغنية الوطنية والحماسية، وقد عبرت الأغنية فيها عن الهوية المصرية حينما جسد فنان الشعب سيد درويش عبر ألحانه وصوته مطالب الثورة بنشيد (بلادي بلادي... لك حبي وفؤادي)، إضافة إلى أغنيتي «قوم يا مصري مصر دايما بتناديك» و»أنا المصري كريم العنصرين..بنيت المجد بين الأهرامين». حتى يأتي العام 1936 لينشد محمد عبد الوهاب أغنية «حب الوطن فرض علي... أفديه بروحي وعينيه» اعتزازا بانتفاضة الطلبة واحتفالا بمعاهدة 1936 التي أبرمها مصطفي النحاس زعيم حزب الوفد مع الإنجليز نظرا لاعتبار المصريين تلك المعاهدة انتصاراً كبيراً في رحلة كفاحهم ضد الاستعمار. ويستمر عبد الوهاب في أداء الأغاني الوطنية ولكن هذه المرة بمناسبة اندلاع حرب فلسطين عام 1948 فأججت الشعور الفني والحس الوطني، الأمر الذي دفع مطرب عصره آنذاك إلى أن يشدو بقصيدة علي محمود طه التي تندد باحتلال فلسطين «أخي جاوز الظالمون المدى... فحق الجهاد وحق الفدا» وغيرها. حتى يأتي عصر ثورة يوليو المجيدة لتظهر التحولات الكبرى في مصر لتفجر الأغاني الوطنية التي انهمرت فور نجاح هذه الثورة، ولتهدي أم كلثوم محبيها أغنيتها الخالدة (مصر التي في خاطري وفي فمي أحبها من كل روحي ودمي) بعد أسابيع قليلة فقط من قيام الثورة، ثم يتألق عبد الحليم – صوت الثورة النابض – ليبدأ أول أغنية وطنية له وهي «العهد الجديد» في نفس عام الثورة، لتكون «إحنا الشعب» أول أغنية يغنيها للزعيم عبد الناصر بعد اختياره لرئاسة الجمهورية، ليتربع بعدها على عرش الأغاني الوطنية ومنها (صورة، بالأحضان، أهلا بالمعارك، المسؤولية، قلنا هانبني وادي احنا بنينا السد العالي)، ولم يكن المطرب الكبير محمد عبد الوهاب بعيداً عن الثورة (ناصر كلنا بنحبك، دقة ساعة العمل، والله وعرفنا الحب)، وشاركت أم كلثوم بقوة (مصر تتحدث عن نفسها، وأنا الشعب.. أنا الشعب، يا حبنا الكبير، ثوار ثوار، قوم بإيمان وبروح وضمير، طوف وشوف). في حين قدم عبد الوهاب بألحانه ملاحم غنائية وأوبريتات رائعة بمشاركة مجموعة من نجوم الطرب مثل (عاش الجيل الصاعد، صوت الجماهير، وطني حبيبي).
وتمر الأيام والسنون ويتوفى عبد الناصر لتسكت الأغاني الوطنية في مصر حتى يحقق المصريون انتصارهم المجيد في 6 أكتوبر 1973 ليعيشوا مجدداً حالة صدق فريدة مع أغنيات رائعة عبرت بالفعل عن الحدث العظيم إلى حد بعيد، فبعد ساعات قليلة من بدء المعركة انطلق مبدعو مصر من مطربين وملحنين وشعراء ليبدعوا بمنتهي الصدق أغنيات خالدة ما زالت تسكن وجدان الملايين ومن أهمها «بسم الله... الله أكبر... باسم الله..باسم الله « للمجموعة، و»أنا على الربابة بغني» لوردة و»الباقي هو الشعب» لعفاف راضي و(لفي البلاد يا صبية، قومي إليك السلام يا أرض أجدادي، صباح الخير يا سينا) لعبد الحليم. ولا ننسى أغنية «أم البطل» لشريفة فاضل والتي غنتها بروحها بعدما ودعت ابنها الطيار المقاتل في أول أيام الحرب، وكانت «رايات النصر» للمجموعة، و»مصر يا غالية» لنجاح سلام، و»ع البر التاني» لنجاة، و»سمينا وعدينا» لشهرزاد..ليعيش المصريون والعرب حتي يومنا الراهن ذكري أغلي انتصار.
أما شادية فكان لها نصيب لا بأس به من الأغاني الوطنية الرائعة في حرب أكتوبر وبعدها فغنت «رايحة فين يا عروسة» و»عبرنا الهزيمة» وأحلي أغنية وطينة بمناسبة عيد النصر العظيم في ذكري تحرير سيناء «مصر اليوم في عيد» العام 1982، وكانت قد غنت قبل ذلك أغنية «يا حبيبتي يا مصر» لتعبر بها عن النصر وإصرار المصريين وعزيمتهم علي تحقيق النصر، وهي الأغنية التي غنتها جموع المصريين في 25 يناير و30 يونيو.
ونتذكر هنا أن المطربين العرب ساهموا أيضا بقدر كبير في الأغاني الوطنية لمصر لتترك أغانيهم أثرا كبيرا في وجدان الشعب المصري، ومن بين هذه الأغاني أغنية «يا أغلى اسم في الوجود» التي تعد من أعظم الأغاني الوطنية التي تغنت بها المطربة اللبنانية نجاح سلام..ولم تكن مطربة لبنان الفنانة الكبيرة فيروز بعيدة عن المناسبات المصرية لتغني»مصر عادت شمسك الذهب» وكانت المطربة التونسية عليا قريبة من المصريين في أغنيتها الشهيرة «متقولش إيه إدتنا مصر»، وكذلك قدم المطرب اللبناني وديع الصافي أغنيته الجميلة» عظيمة يا مصر يا أرض النعم».
لقد تألقت الأغنية الوطنية وترعرعت وقت الأزمات، ومن هنا تبقي في ذاكرة الجمهور لا ينساها خاصة مع تكرار الاحتفال بتلك المناسبات أو بعد تحقيق الانتصارات، ولا تزال تعيش الأغاني الوطنية لمحمد عبد الوهاب وأم كلثوم ووردة وشادية وفايزة أحمد وغيرهم الكثيرون لتعبر عن إحساس وطني يتجدد، خاصة وأن لكل فنان له تجربته الخاصة بالغناء وطريقة تقديمها، ولا ننسى جميعنا عرب ومصريون نشيد بلادي بلادي الذي غناه سيد درويش ليكون مبادرة خلاقة لمئات الأغاني المصرية التي بدأت القرن الفائت ومستمرة حتى يومنا هذا ولكن للأسف لا يتم إذاعتها سوي في مناسبات محددة ومن أهمها حاليا ذكرى انتصار السادس من أكتوبر التي احتفل لها المصريون الأسبوع الفائت، وهي الحرب التي ارتبطت في أذهان العرب والمصريين بجانب الانتصار الكبير بنوعية جديدة من الأغاني الحماسية التي تفاعل معها الجمهور بصفتها تعكس أحداثا سياسية إلى أن أصبحت جزءاً من ذاكرتنا جميعاً وأداة توثيق لكثير من المراحل التي ساهمت في تشكيل وجدان الشعب المصري وعموم الشعب العربي.

كاتب ومحلل سياسي بحريني