طغيان الدولار

مقالات رأي و تحليلات الخميس ٠٨/نوفمبر/٢٠١٨ ٠٣:٢٢ ص
طغيان الدولار

مارك ليونارد

ربما لا يرغب دونالد ترامب في شن حروب في الشرق الأوسط، لكن هذ لا يعني أنه أخرج الولايات المتحدة من مهنة تغيير الأنظمة. فقد أوضحت إدارته أنها تريد فرض عقوبات تشل حركة إيران لخدمة نفس الغرض الذي دفع إدارة بوش في عام 2003 إلى غزو العراق.

منذ انسحابه في مايو من الاتفاق النووي الذي أبرم مع إيران في عام 2015، والمعروف باسم خطة العمل الشاملة المشتركة، كان ترامب يبحث عن طرق لتكثيف الضغوط على النظام الإيراني. ومن الرابع من نوفمبر، دخلت العقوبات الأمريكية على صناعة النفط الحيوية في إيران حيز التنفيذ. بل وتريد الإدارة الذهاب إلى ما هو أبعد من ذلك، من خلال فرض عقوبات ثانوية على دول أخرى بهدف منع إيران من الدخول إلى الاقتصاد العالمي القائم على الدولار بالكامل.

لتحقيق هذه الغاية، تريد الولايات المتحدة منع البنوك الإيرانية من الوصول إلى جمعية الاتصالات المالية العالمية بين البنوك (سويفت) ونظام المدفوعات العالمي الذي تشرف عليه. وهذا من شأنه أن يعيد إيران فعليا إلى عصر ما قبل العولمة. بيد أن المشكلة في نظر ترامب ومستشاريه هي أن سويفت ليست مؤسسة أمريكية. فهي مسجلة ومقرها في بلجيكا، التي تدعم، إلى جانب الدول السبع والعشرين الأخرى في الاتحاد الأوروبي، خطة العمل الشاملة المشتركة.
الواقع أن استكشاف أمريكا لعقوبات «ذكية» متزايدة التطور ليس بالأمر الجديد. فمنذ بداية «الحرب على الإرهاب» على الأقل، كانت الولايات المتحدة حريصة على استخدام كل وسيلة ضغط مالية ممكنة لتدمير شبكات عالمية كتلك التي استخدمها أسامة بن لادن لشن هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001.
في مستهل الأمر، ركزت الولايات المتحدة في الأساس على تجميد أصول الجماعات المتطرفة والفروع التابعة لها. لكن ستيوارت ليفي وكيل وزارة الخزانة لشؤون الإرهاب والاستخبارات المالية آنذاك كان له رأي آخر. فقد تبادر إلى ذهنه أن الولايات المتحدة تستطيع أن تستخدم نفوذها على القطاع الخاص لمنع القوى الخبيثة من الوصول إلى الاقتصاد العالمي.
بعد ذلك بفترة وجيزة، بدأت الولايات المتحدة تمارس الضغوط على البنوك في مختلف أنحاء العالَم لحملها على إسقاط أعمالها مع إيران. وفي نهاية المطاف، أعلنت السلطات أن أي بنك يقوم بأعمال مع إيران سوف يُمنَع من الدخول إلى سوق الولايات المتحدة. وبهذا الإعلان، وُلِدَت «العقوبات الثانوية».
كانت عقوبات ليفي الثانوية ناجحة إلى حد مذهل. فما كان لأي قائد أعمال عاقل أن يختار الاقتصاد الايراني على اقتصاد الولايات المتحدة. وعندما اتهمت البنوك (بنك بي إن باريباس الفرنسي على وجه التحديد) بانتهاك العقوبات، كانت الغرامات ضخمة إلى الحد الذي جعلها ترسل موجات الصدمة عبر الأسواق المالية العالمية. ولم يستغرق الأمر وقتا طويلا قبل أن تنشر الولايات المتحدة طرقا مماثلة لحرب «التوصيلية» ضد كوريا الشمالية، والسودان، بل وحتى روسيا.
كان مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية السابق مايكل هايدن يشبه العقوبات الثانوية بالصواريخ الدقيقة التوجيه في القرن الحادي والعشرين. ولأنها تشبه المبضع الجراحي وليس المطرقة، فإنها كانت جذابة بشكل خاص في نظر الأوروبيين، الذين اعترفوا بها كبديل فعّال للحرب. وعلى النقيض من العقوبات الغربية ضد العراق في تسعينيات القرن العشرين، عَرَضَت العقوبات الثانوية طريقة لمعاقبة الأنظمة وليس الشعوب بالكامل.
أثناء إدارة الرئيس باراك أوباما، أصبحت العقوبات الموجهة أول سلاح تلجأ إليه أمريكا. وجنبا إلى جنب مع الاتحاد الأوروبي، عملت إدارة أوباما على شحذ وضبط الإجراءات العقابية ضد إيران. وكان ذلك النهج فعّالا إلى الحد الذي حمل إيران على الذهاب إلى طاولة المفاوضات في نهاية المطاف، حيث وافقت على الحد من أنشطة التخصيب النووي في إطار خطة العمل الشاملة المشتركة.
بيد أن المبضع الجراحي تحول في يد ترامب إلى مطرقة. وعلى حد تعبير أحد كبار المسؤولين الأوروبيين في حديث معي فإن العقوبات الجديدة التي تفرضها إدارة ترامب أشبه بالقنابل العنقودية التي تسقط على الأصدقاء والأعداء على حد سواء.
منذ ألغى ترامب خطة العمل الشاملة المشتركة، كان قادة أوروبا يبحثون عن طرق للحفاظ على بعض المنافع لصالح إيران، حتى لا تستأنف برنامجها النووي. لكن الولايات المتحدة كانت حريصة على جعل هذا الأمر ممارسة بالغة الصعوبة، من خلال تهديد الأفراد في مجالس إدارة الشركات الأوروبية، بما في ذلك مديري سويفت، بفرض عقوبات موجهة.
الأمر الأكثر ترويعا أن مسؤولين رسميين أوروبيين لم يسلموا من تهديدات مماثلة. ويبدو أن الطلب الذي تقدم به قادة أوروبيون إلى بنك الاستثمار الأوروبي للمساعدة في دعم الاتفاق النووي مع إيران لم يؤت ثماره، وهو ما يرجع في الأرجح إلى تهديدات أمريكية ضد مصالح بنك الاستثمار الأوروبي ومديريه.
علاوة على ذلك، لم يخل الأمر من شائعات حول تهديدات أمريكية مستترة ضد مسؤولين كبار في البنوك المركزية، بما في ذلك مديري البنك المركزي الأوروبي. ومن جانبه، كان البنك المركزي الألماني يدرس فتح حساب لتمويل التجارة مع طهران، حتى لا تضطر البنوك الألمانية الخاصة إلى الامتثال لأهواء ونزوات رئيس أمريكي؛ لكنه سرعان ما تخلى عن الفكرة دون تفسير حقيقي. وقام البنك المركزي الفرنسي بالفعل بإنشاء حساب (من خلال بنك الاستثمار العام الفرنسي Bpifranc) لتمويل التجارة مع إيران؛ لكنه أيضا سرعان ما عكس مساره.
في هذه المرحلة، لا يجوز لنا أن نستبعد الاحتمال المزعج المتمثل في خضوع مسؤولين أوروبيين للضغوط لحملهم على التملص من القانون الدولي خوفا من دخولهم السجن في أول رحلة يقومون بها إلى الولايات المتحدة.
وليس من المستغرب أن يعود الأوروبيون إلى مناقشة الاستخدام المناسب للعقوبات.
علاوة على ذلك، مع تحول النظام المالي الأمريكي إلى امتداد لسياسة ترامب للأمن القومي، بدأ صناع السياسات الأوروبيون يتفجعون إزاء «طغيان» الدولار.
وفي تعليق حديث في هاندلسبلات، ذهب وزير الخارجية الألماني هيكو ماس إلى حد الدعوة إلى إنشاء نظام مدفوعات أوروبي مستقل.
ويبدو أن حتى دول الاتحاد الأوروبي الأطلسية الأكثر إخلاصا تُدفَع الآن دفعا إلى خلق بديل لنظام الدولار، حتى وإن كان ذلك البديل لا يلوح قريبا في الأفق.
في الأمد القريب، يتلخص السؤال المطروح على الأوروبيين في كيفية مواكبة الركب في عالَم يهيمن عليه الدولار.
وقد قاوم الاتحاد الأوروبي بالفعل هجمات تدابير الحماية التي يشنها ترامب، من خلال التهديد باتخاذ إجراءات مضادة ضد المنتجين الأمريكيين. والآن يتعين عليه أن يفعل نفس الشيء في القطاع المالي.
ولابد من التصدي للتهديدات الموجهة إلى المؤسسات الأوروبية والمسؤولين الأوروبيين، عن طريق التهديد باتخاذ تدابير مضادة مناسبة. ومن المؤسف أن هذه هي اللغة الدبلوماسية الوحيدة التي يفهمها ترامب.

مدير المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية.