تدفق رؤوس الأموال

مقالات رأي و تحليلات الأربعاء ١٤/نوفمبر/٢٠١٨ ٠٤:٣٧ ص
تدفق رؤوس الأموال

أندريس فيلاسكو

قال نائب رئيس وزراء سنغافورة تارمان شانموغاراتنام بنبرة حزينة في الاجتماع السنوي لصندوق النقد الدولي والبنك العالمي في بالي خلال هذا الشهر «من الخطأ اليوم أن نعاني من عجز في الحساب الجاري، وهذا جنون». وعزز الوزراء الذين لديهم القدرة حساباتهم الجارية المتوازنة، بينما تم التعامل مع المسؤولين من الدول التي تعاني من العجز وكأنهم أشرار. ومع ذلك، فتارمان قام بتذكير المجموعة، أن دولا مثل كوريا الجنوبية وسنغافورة «نمت عن طريق العجز في الحساب الجاري في مراحل مبكرة للتنمية، لنتمكن من الاستثمار في المستقبل من أجل تحقيق النمو وفي نفس الوقت كنا نبني مدخراتنا».

إن النظرية الاقتصادية تتفق معه بشكل مباشر. فلا تحتاج أسرة للانتظار حتى يكون لديها مدخرات تعادل قيمة البيت الذي ترغب في شرائه. بل، من المنطقي الاقتراض ما دامت الأسرة في عز الشباب، ومادام دخلها متدنيا نسبيا، وتسديد الدين عندما يتحسن مستواها الاجتماعي. وينطبق نفس المنطق على الدول النامية، التي تفضل العجز والاقتراض ما دامت فقيرة للهروب من الفاقة.

وفي أي دولة فقيرة، يكون رأس المال نادرا – سواء كان ذلك المعامل، أو البنية التحتية أو المدارس- إذا فمعدل العائد على الاستثمارات الجديدة مرتفع. وما يسمح لدولة فقيرة بتحقيق الرفاه هو بالضبط الفرق بين ربحية استثماراتها ومعدل الفوائد الذي تدفعه على القروض. وهذه الاستراتيجية هي التي ساعدت سنغافورة، وكوريا الجنوبية، واقتصادات ناجحة أخرى على أن تصبح غنية.
ومع ذلك، فالدول التي تعاني من العجز تعامل وكأنها ارتكبت ذنبا، لأن العجز يجعل دولة ما تعتمد على العملة الأجنبية المعروفة بتقلبها. والاقتراض من الخارج يمكنه أن يعزز نمو دولة ما، لكنها تجعلها معرضة للأزمات.
كل شيء على ما يرام مادام قادة الدول الأجنبية يُقرضون، وما دامت الدول الفقيرة مستمرة في الاستثمار. لكن إن شعر المقرضون بالقلق والخوف، فإن «التوقف المفاجئ» في تدفق رؤوس الأموال يقتضي أن تقلص الدولة من الواردات الرئيسية بشكل مفاجئ، مما سيؤدي إلى الكساد.
وعندئذ، قد لن يرفض المقرضون الخائفون تمديد قروض جديدة فقط، بل سيطالبون بتسديد الديون القديمة أيضا. وعندها ستضطر الشركات والبنوك المحلية إلى التخلص من الاستثمارات، لكن إذا كان هناك بائعون كثر مقابل عدد قليل من المشترين، فستنخفض قيمة الموجودات، مما سيؤدي إلى حالات الإفلاس وأزمة مالية كاملة. وهذا يعطي تبريرا للتوقعات المتشائمة للمقرضين.
وهذا ما وقع بالضبط لعدد لا يحصى من الاقتصادات الناشئة خلال الـ25 سنة الأخيرة. وهذا ما حدث أيضاً للأرجنتين مؤخراً: إذ بعد توقف مفاجئ في تدفقات رؤوس الأموال، فقدت العملة المحلية نصف قيمتها وحدث كساد اقتصادي (ولحسن الحظ، لم يخلف ذلك أزمة مالية كاملة). وليس من الغريب إذا أن ينظر إلى العجز في الحساب الجاري، وكأنه ذنب.
ولكون الدول الناشئة تدرك هذه المخاطر، فإنها غالباً ما تختار بين شيئين. إما أن تعتمد سياسات نقدية ومالية صارمة تحول دون حدوث عجز في الحساب الجاري، أو أنها تدخر مخزونا كبيرا من الاحتياطات الدولية. ومرادف الاستراتيجية الأولى هو عندما تضيع عائلة ما كل فرص القروض أثناء شرائها لمنزلها. بينما الاستراتيجية الثانية هي عندما يتم اقتراض قيمة تعادل قيمة المدخرات. ولا جدوى من أي واحدة من هاتين الاستراتيجيتين من ناحية النجاعة.
وترأس تارمان مجموعة عينتها حكومات مجموعة 20 لاقتراح إصلاحات مالية دولية (كنت عضوا أيضا). وفي تقرير وُضع لدى وزراء المالية ومدراء البنك المركزي المجتمعين ببالي، قالت المجموعة أنه من الممكن أن تستفيد الدول من تدفق رؤوس الأموال الدولية دون خطر تعرض السوق لتقلبات مفرطة وأزمات. لكن هذا يحتاج إلى إحداث تغييرات عميقة في السياسات القومية والعالمية.
ويبدأ التقرير بالاعتراف بضرورة تقوية الاقتصادات الناشئة لأسواقها المالية الوطنية. وينبغي أن تكون موارد جزء من التمويل وطنية، شأنه في ذلك شأن الدفعة الأولى التي يجب أن يكون مصدرها من مدخرات عائلة حذرة. وينبغي أن تكون القروض المحلية بالعملة الوطنية أيضا، لحماية المقرضين من خطر معدل سعر الصرف.
ويقترح التقرير أيضا آليات مراقبة عالمية معززة. ولا ينبغي أن يغطي كون بعض الأزمات المالية ناتجة عن التشاؤم النابع من الذات حقيقة كون البعض ناتجة عن سياسات ناقصة. وإذا أدركت هذه الأخطاء وصححت قبل فوات الأوان، فسيكون لدى العالم فرصة لتجنب الفشل في مرة أخرى. ولأن الأزمات المالية لها انعكاسات واسعة النطاق ومكلفة، فإن المراقبة الجيدة تعني أن المتفرجين الأبرياء سيكونون في محمى من الخطر.
وأهم ما يدعو إليه التقرير هو خلق شبكة سلامة مالية عالمية معززة لضمان أن الدول محمية بشكل جيد من التقلب المفرط والهلع بشأن الأسواق المالية النابع من الذات.
إن شبكة السلامة المالية العالمية تنمو منذ الأزمة المالية التي حدثت منذ عقد من الزمن. وفي عام 2006، كما يوضح التقرير، أتت نسبة 90 % من الموارد المتاحة من صندوق النقد الدولي. ومع حلول العام 2016، شكل التمويل الثلث فقط من هذه الموارد، وشكلت الأنظمة المالية الإقليمية واتفاقات المقايضة الثنائية الأطراف النسبة المتبقية.
ولضمان حصول الدول على الدعم المؤقت في حينه خلال أزمات السيولة، ينبغي أن تخاط الطبقات المتعددة لشبكة السلامة المالية العالمية مع بعضها، ويجب أن تكون مؤسسة تابعة لصندوق النقد الدولي ومقاومة للسيولة في جوهر شبكة السلامة العالمية المعززة. ولضمان أن تكون المؤسسة كبيرة بشكل يمكنها من مواجهة أحداث السيولة العالمية مثل تلك التي وقعت في الفترة ما بين 2008 و2009، سيحتاج صندوق النقد الدولي إلى المزيد من الموارد، سواء كان ذلك عبر اقتراض الأسواق من الصندوق أو عبر وسائل أخرى.
إن المتشككين سيقولون أن المحاولات الفائتة لتأسيس مؤسسات مقاومة للسيولة في صندوق البنك الدولي فشلت، إما لأن الانضمام إليها كان صعبا أو غير مرغوب فيه. لكن هذا ليس مبررا للفشل في المحاولة من جديد- لاسيما أن الدلائل القوية تشير إلى أن أزمات السيولة يمكنها أن تتحول بسهولة إلى مشاكل تتعلق بالقدرة على إيفاء جميع الديون التي تمتد إلى الحدود القومية والإقليمية. وتبعات هذه المشاكل في مجال العمل والإنتاجية تسبب معانات للإنسان التي كان من الممكن تجنبها لو أننا اعتمدنا فقط السياسات الملائمة.
ولمواجهة الاعتراضات الأخلاقية الاعتيادية والخطيرة، ستقتضي المؤسسة الجديدة أن تتأهل الدول قبليا عن طريق إظهار سياسات وطنية حكيمة. والتأهل القبلي لصندوق النقد الدولي سيشمل أيضا الانضمام إلى نظام مالي إقليمي ذي صلة، إذا كان متاحا، وبالتالي المساعدة على إدماج النظام بأكمله.
وفي اجتماع بالي، كشف البنك العالمي عن لائحته الجديد لرأس المال البشري. واحتلت سنغافورة وكوريا الجنوبية مقدمة الترتيب. بينما ينبغي على الاقتصادات الناشئة أن تحقق نفس إنجازات هذين البلدين في مجال التعليم والصحة، وينبغي عليها أيضا أن تحذو حذو سنغافورة وكوريا الجنوبية في الطريقة التي مولت بها كل هذه المدارس والمستشفيات: عن طريق الاقتراض من الخارج والعجز الخارجي عند الضرورة. لكن هذا سيكون مستحيلا دون سياسات عالمية جديدة وجريئة تسيطر على تقلبات تدفق رؤوس الأموال المؤذية. ويوضح التقرير كيف؛ والآن نحتاج إلى الإرادة السياسية ليصبح هذا التغيير ممكنا.

وزير المالية ومرشح سابق للرئاسة في تشيلي،
وأستاذ الممارسة المهنية في مجال التنمية الدولية في جامعة كولومبيا