التعويض عن التجارة الحرة

مقالات رأي و تحليلات الأحد ١٨/نوفمبر/٢٠١٨ ٠٥:٢٧ ص
التعويض عن التجارة الحرة

روبرت سكيدلسكي

إن معظم الليبراليين تقريبا يدعمون العولمة ويعارضون النزعة الوطنية فيما يتعلق بالاقتصاد حيث يتجاهلون تزايد الأدلة على أن العولمة بشكلها الحالي لا تتوافق مع الديمقراطية بشكل ينذر بالخطر.

لقد ذكر داني رودريك من جامعة هارفارد في كتابة لسنة 2011 «مفارقة العولمة» أن هناك تناقضا متبادلا بين الدولة والديمقراطية والعولمة حيث يمكننا أن نحصل على اثنين فقط وليس الثلاثة معا وبشكل متزامن (يطلق على ذلك المعضلة الثلاثية) وفي جميع أنحاء العالم يثور «الشعب» ضد العولمة باسم الديمقراطية.

لقد كان ذلك واضحا هذا العام عندما فرض الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لأول مرة الرسوم الجمركية ضمن مجموعة واسعة من الرسوم الجمركية على البضائع الصينية حيث ردت الصين بالمثل كما قام ترامب بتمزيق اثنتين من المعاهدات التجارية الدولية وهدد بالانسحاب من منظمة التجارة العالمية.
إن العامل الذي أشعل توجه أمريكا نحو النزعة الوطنية الاقتصادية هو العجز التجاري المتزايد -566 بليون دولار سنة 2017 وهذا الرقم في تزايد- بينما ينتعش الاقتصاد الأمريكي ولكن السبب الأعمق هو التصور الصحيح بأن ما ينتج عن ذلك من عجز في الحساب الجاري هو عجز «غير حميد» عندما يتم تمويله من خلال تدفق رؤوس الأموال قصيرة المدى أو ما يطلق عليها «الأموال الساخنة».
إن العجز في الحساب الجاري يعني أن الواردات في بلد ما تزيد عن الصادرات وهذه الواردات الزائدة يمكن أن تؤدي إلى صافي خسارة للوظائف الجيدة علما أن ست ملايين وظيفة تصنيعية قد اختفت في العقود الأولى من القرن الحالي. إن منطقة الحزام الصدأ في أمريكا جعلت ترامب رئيسا حيث ذكر ترامب للجماهير المؤيدة في ديترويت سنة 2016 «لقد حان الوقت لإعادة بناء ميتشيجان ولن ندعهم يأخذون الوظائف من ميتشيجان بعد اليوم».
إن هناك جذور جيوسياسية لحمائية ترامب فواردات المعادن قد أدت إلى إغلاق العديد من المؤسسات التي يمكن أن تكون ضرورية لغايات الدفاع. إن خطة الصين الاستراتيجية «صنع في الصين 2025» هي سياسة صناعية عالية التقنية تهدف إلى تحويل الصين إلى قائد عالمي مسيطر في صناعات المستقبل وهذه الخطة تعتمد بشكل كبير على سرقة التقنيات المتقدمة من الولايات المتحدة الأمريكية ولو نجحت خطة صنع في الصين 2025، فإن هذا سينعكس سلبا على المستقبل الاقتصادي والسياسي لأمريكا.
من الناحية الاقتصادية الصرفة فإن الشخصية السياسية للشركاء التجاريين يجب ألا تكون مهمة ولكن في عالم من التنافس الاستراتيجي فإن التجارة الدولية تعتبر أداة للسياسات علما أن استخدامها في ذلك السياق يجب ألا يتم الاعتراض عليه لأنه ينتهك ببساطة المبدأ المقدس للتجارة الحرة وكما أشار فريدريك لست وهو رائد الوطنية الاقتصادية في القرن التاسع عشر فإن التجارة الحرة تقوم على افتراض وجود عالم مسالم.
إن الرسوم الجمركية الانتقائية يمكن أن تكون مفيدة في حماية الصناعات الدفاعية أو منع دول أخرى من سرقة التقنيات المبتكرة ولكن كسياسة تجارية عامة فإن الرسوم الجمركية هي عشوائية وغير دقيقة والولايات المتحدة الأمريكية ستتكبد تكاليف عالية ويمكن أن ينتهي بها المطاف بدون تحقيق انخفاض كبير في العجز التجاري أو غير ذلك من الفوائد المهمة.
هل هناك طريقة للحد من التجارة الحرة بحيث لا تقود لحروب تجارية؟ إن الاقتصادي فلاديمير ماش يقترح خطة مبتكرة تدعى «التعويض عن التجارة الحرة» وذلك من أجل تحقيق الأهداف الحمائية المشروعة بدون تقويض النظام الاقتصادي العالمي.
بموجب هذه الخطة فإن صنّاع السياسات سيقومون بوضع سقف للعجز التجاري كل عام ويفرضون قيودا على الفوائض العائدة للشركاء التجاريين (أي منتجات نحتاجها من الشريك الذي لديه فائض ستكون معفاة من الحد الأقصى للصادرات من ذلك الشريك). في حالة الولايات المتحدة الأمريكية فإن هذا السقف سيؤثر بشكل عام على الصين والمكسيك واليابان وألمانيا والتي ساهمت بـ375 بليون دولار أمريكي و71 بليون دولار أمريكي و69 بليون دولار أمريكي و64 بليون دولار أمريكي على التوالي في العجز التجاري الإجمالي سنة 2017.
طبقا لخطة التعويض عن التجارة الحرة فإن بلد الفائض التجاري يمكن أن يخفض صادراته لتتوافق مع القيد المحدد ولكن يمكنه كذلك أن يتجاوز «كوتا» الصادرات الخاصة به لو قامت حكومة ذلك البلد بدفع حكومة الشريك غرامة تعادل قيمة الصادرات الزائدة سواء باستلام المبلغ المطلوب من منتجي صادراتها أو استخدام احتياطاتها من العملات (يمكن للحكومة المتلقية استخدام الغرامات في توسيع البرامج الاستثمارية الخاصة بها) ولكن لو حاول بلد الفائض تجاوز حد الصادرات بدون دفع الغرامة فإنه يمكن منع صادراته الفائضة.
إن هذه الحمائية الذكية تتمتع بمزايا عديدة مقارنة بالرسوم الجمركية العشوائية. أولا وقبل كل شيء، ستمنع الحروب التجارية ونظرا لأن التعويض عن التجارة الحرة يفرض قيودا على الفائض التجاري فقط فإن أي محاولة من قبل بلد الفائض لتخفيض قيمة وارداتها من الولايات المتحدة الأمريكية ستؤدي تلقائيا لتخفيض قيمة الصادرات المسموح بها.
ثانيا، إن خطة التعويض عن التجارة الحرة ستتعامل بالنسبة لكل شريك وفي ضربة واحدة مع الدعم الحكومي والتلاعب بالأسعار والعملات وغيرها من الحيل القذرة للتجارة الدولية وعلى النقيض من المساومة المطولة والتي عادة ما تكون غير مثمرة فيما يتعلق بالاتفاقات التجارية فإن النتائج هنا سيتم الحصول عليها بشكل فوري.
ثالثا، عن طريق إعادة التوازن للترتيبات المالية والتجارية للمشاركين بالاقتصاد العالمي فإن خطة التعويض عن التجارة الحرة تعتبر خطوة تجاه التعامل مع الاختلال الحالي. إن التعويض عن التجارة الحرة ليس حلا كاملا وذلك لأنه يترك مسألة من سيعدل لمن مفتوحة. إن إصلاح نظام المدفوعات العالمي مما يعني عمل تعديل متماثل للاختلالات العالمية سيعمل على معالجة تلك القضية.
رابعا، نظرا لنفوذ أمريكا فإن تبنّيها لتعويض التجارة الحرة سيشجع بلدان الفائض التجاري المترددة على قبول نظام الدفع هذا حيث يتوجب على النظام المالي العالمي العمل ضمن القيود التي يحددها نظام مدفوعات متوازن.
خامسا، بالنسبة للفوائد الاقتصادية للولايات المتحدة الأمريكية فإن تطبيق التعويض عن التجارة الحرة سيحفّز على عودة المؤسسات الأجنبية والوظائف مما يمكن البلاد من استعادة إمكاناتها الصناعية وتوازنها الاجتماعي. من الناحية التاريخية فإن خطة التعويض عن التجارة الحرة هي بمثابة تفعيل أحادي لبند العملة النادرة (المادة 7) من اتفاقية بريتون وودز والذي سمح لصندوق النقد الدولي بإعلان أن عملة البلد الذي يتمتع بفائض تجاري مستمر «نادرة» مما يسمح للدول الأعضاء الأخرى بالتمييز ضد بضائع ذلك البلد وهذا يتوافق مع المادة 12 من الاتفاقية العامة للرسوم الجمركية والتجارة (والتي سبقت منظمة التجارة الدولية) حيث تنص تلك الاتفاقية أنه بإمكان «أي بلد من أجل تأمين وضعه المالي الخارجي وميزان المدفوعات الخاص به، تقييد كمية أو قيمة البضائع التي يسمح له باستيرادها».
باختصار، إن خطة التعويض عن التجارة الحرة تتصدى للعجز التجاري وتتغلب على تحديدات الرسوم الجمركية وهي خطوة ضرورية من أجل إعادة تأسيس نظام مدفوعات عالمي ذي جدوى اقتصادية وببساطة فإن هذه الخطة تتغلب على معضلة رودريك الثلاثية حيث يمكنك أن تحصل على الدولة الوطنية والديمقراطية والعولمة في نفس الوقت.
ولكن هناك دولة وطنية واحدة وهي الولايات المتحدة الأمريكية التي لديها النفوذ من أجل تحقيق ذلك وبعمل ذلك ستوقف الاندفاع العالمي نحو نموذج خبيث للوطنية الاقتصادية ولهذا السبب فقط فإن خطة ماش تستحق أن يتم النظر فيها بشكل جدي.

عضو في مجلس اللوردات البريطاني
وهو أستاذ فخري في الاقتصاد السياسي في جامعة وارويك