انحسار قوة ترامب

مقالات رأي و تحليلات الاثنين ١٩/نوفمبر/٢٠١٨ ٠٥:٠٥ ص
انحسار قوة ترامب

جيفري ساكس

كان التساؤل حول ما إذا كان بوسع رئيس متطرف أن يفرض على غالبية الأمريكيين أجندة سياسية متطرفة رغم إرادتهم المحور الأساسي للدراما التي أثارتها رئاسة دونالد ترامب. حتى الآن كان الجواب بالنفي، ومن الواضح أن نتائج انتخابات التجديد النصفي تجعل مثل هذا الأمر أقل ترجيحا إلى حد كبير. ومع ذلك فإن إحباطات ترامب المتصاعدة ربما تدفعه إلى ارتكاب أفعال غير متزنة نفسيا، مع ما قد يترتب على ذلك من عواقب وخيمة تضر بالديمقراطية الأمريكية والعالم.
لم تحظ أي من أفكار ترامب المتطرفة على مستوى السياسات بتأييد شعبي كبير. فقد عارض عامة الناس خفض ضرائب الشركات الذي دعمه الجمهوريون في العام الفائت، والجهود التي بذلها ترامب لإلغاء قانون الرعاية الميسرة (أوباما كير)، والجدار الذي اقترح إقامته على الحدود مع المكسيك، وقرار الانسحاب من اتفاق إيران النووي، وفرض زيادات الرسوم الجمركية على الواردات من الصين وأوروبا ومناطق أخرى. في الوقت نفسه، وعلى النقيض من ترويج ترامب على نحو لا ينقطع للوقود الأحفوري (الفحم، والنفط، والغاز)، يفضل عامة الناس الاستثمار في الطاقة المتجددة ويميلون إلى اختيار البقاء في اتفاق باريس للمناخ.
حاول ترامب تنفيذ أجندته المتطرفة مستعينا بثلاثة أساليب. فأولا، اعتمد ترامب على الأغلبية الجمهورية في مجلسي الكونجرس لإقرار التشريع رغم المعارضة الشعبية القوية. وقد نجح هذا النهج مرة واحدة، مع خفض الضريبة على الشركات في العام 2017؛ لأن كبار المانحين الجمهوريين أصروا على هذا الإجراء، لكنه فشل مع محاولة ترامب إلغاء أوباما كير، بسبب اعتراض ثلاثة من أعضاء مجلس الشيوخ من الجمهوريين.
وكان النهج الثاني استخدام الأوامر التنفيذية للتحايل على الكونجرس. وهنا تدخلت المحاكم على نحو متكرر، وكان أحدث تدخلاتها بعد بضعة أيام من الانتخابات، عندما قررت محكمة فيدرالية وقف العمل في خط أنابيب كي ستون 40، وهو المشروع الذي عارضه أنصار حماية البيئة بشدة، على أساس أن إدارة ترامب فشلت في تقديم "تفسير معقول" لتصرفاتها. وقد تجاوز ترامب مرارا وتكرارا حدود سلطاته، ولا تكف المحاكم عن مقاومته.
أما تكتيك ترامب الثالث فيتمثل في حشد الرأي العام في صفه. ولكن رغم اجتماعاته الحاشدة المتكررة، أو ربما بسببها وابتذالها وسوقيتها التحريضية، تجاوز معدل رفض ترامب معدلات قبوله منذ أوائل أيام إدارته. فالآن تبلغ نسبة رفضه في الإجمال 54% في مقابل نسبة قبول لا تتجاوز 40%، مع موافقة قوية من نحو 25% من عامة الناس. ولم نشهد تحركا ثابتا في اتجاه ترامب.
في انتخابات التجديد النصفي، التي وصفها ترامب ذاته على أنها استفتاء على رئاسته، شهدنا كيف تمكن المرشحون الديمقراطيون لكل من مجلسي النواب والشيوخ من التفوق في صناديق الاقتراع بوضوح على خصومهم الجمهوريين. ففي سباقات مجلس النواب، حصل الديمقراطيون على 53314159 صوتا على المستوى الوطني، مقارنة بـ48439810 أصوات للجمهوريين. وفي سباقات مجلس الشيوخ أيضا، تفوق الديمقراطيون على الجمهوريين، فحصل الديمقراطيون على 47537699 صوتا، في حين حصل الجمهوريون على 34280990 صوتا.
وبجمع الأصوات التي حصل عليها كل حزب في الدورات الانتخابية الثلاث الأخيرة (2014، 2016، 2018)، يتبيّن لنا تفوق المرشحين الديمقراطيين على المرشحين الجمهوريين لمجلس الشيوخ بنحو 120 مليون صوت إلى 100 مليون صوت. ومع ذلك، احتفظ الجمهوريون بأغلبية ضئيلة في مجلس الشيوخ، حيث يمثل كل ولاية عضوان في مجلس الشيوخ، بصرف النظر عن عدد سكانها؛ لأن الجمهوريين يميلون إلى الفوز بمقاعدهم في الولايات الأقل سكانا، في حين يتفوق الديمقراطيون في الولايات الكبرى الساحلية وولايات الغرب الأوسط. على سبيل المثال، تنتخب ولاية وايومنج عضوين جمهوريين في مجلس الشيوخ لتمثيل سكانها الذين يقرب عددهم من 580 ألف نسمة، في حين تنتخب كاليفورنيا التي يتجاوز عدد سكانها 39 مليون نسمة عضوين ديمقراطيين لمجلس الشيوخ. وبهذا يفوز الديمقراطيون بعدد أكبر من الأصوات، لكن الجمهوريين يفوزون بعدد أكبر من المقاعد.
ولكن بدون السيطرة على مجلس النواب، لن يتمكن ترامب من استنان أي تشريع يفتقر إلى الشعبية. أي أن السياسات التي تحظى بدعم الحزبين فقط ستحظى بالفرصة للمرور عبر المجلسين.
على الصعيد الاقتصادي، ستصبح سياسات ترامب التجارية في الأشهر المقبلة أقل شعبية حتى من حالها الآن، عندما تبرد حرارة الاقتصاد بعد فرط النشاط الناجم عن خفض ضريبة الشركات، مع تسبب الشكوك المتنامية حول احتمالات تسبب السياسة التجارية العالمية في عرقلة الاستثمار في الأعمال التجارية، ومع ارتفاع نسب العجز وأسعار الفائدة. كما ستصبح مبررات الأمن القومي الزائفة التي يسوقها ترامب لزيادة التعريفات الجمركية موضع انتقاد شديد على المستوى السياسي وربما في المحاكم.
صحيح أن ترامب سيظل قادرا على تعيين قضاة فيدراليين محافظين وتأمين تأييدهم له في الأرجح في مجلس الشيوخ الجمهوري. وفي قضايا الحرب والسلام، سيعمل ترامب في ظل قدر ضئيل إلى حد مخيف من المراقبة من قِبَل الكونجرس أو عامة الناس، وهي مأساة تبتلي النظام السياسي في الولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية. وفي الأرجح، سيعمل ترامب، شأنه في ذلك كشأن الرؤساء الذين سبقوه في العقود الأخيرة، على الإبقاء على أمريكا غارقة في حروب في الشرق الأوسط وإفريقيا، رغم الافتقار إلى التفهم أو الدعم العام لهذه الحروب.
مع ذلك، هناك ثلاثة أسباب أخرى تجعلنا نعتقد أن قبضة ترامب على السلطة ستضعف بشكل كبير في الأشهر المقبلة. فأولا، ربما يوثق المستشار الخاص روبرت مولر مخالفات خطيرة ارتكبها ترامب وأفراد أسرته و/أو مستشاروه المقربون. كان مولر حريصا على الإقلال من ظهوره في الفترة التي سبقت الانتخابات. وسنسمع منه قريبا في الأرجح.
ثانيا، سيبدأ الديمقراطيون في مجلس النواب في التحقيق في معاملاته الضريبية والشخصية في عالَم الأعمال، بما في ذلك من خلال مذكرات الاستدعاء للمثول أمام الكونجرس. وهناك أسباب قوية تدعو إلى الاعتقاد بأن ترامب ارتكب جريمة التهرب الضريبي (كما أوضحت مؤخرا صحيفة نيويورك تايمز) كما عمل على إثراء أفراد أسرته بوصفه رئيسا بشكل غير قانوني (تزعم دعوى قضائية سمحت المحاكم بنظرها أن ترامب انتهك الفقرة الخاصة بالراتب في الدستور). وسيتجاهل ترامب مذكرات الاستدعاء أو يقاومها في الأرجح، مما يمهد الساحة لأزمة سياسية كبرى.
السبب الثالث والأكثر أهمية هو أن ترامب ليس مجرد سياسي متطرف. فهو يعاني من "عقل مختل" عامر بالكراهية، والبارانويا، والنرجسية، كما أشار المؤلف إيان هيوز مؤخرا. ووفقا لمراقبين لصيقين بترامب، فإن إدراك الرئيس للواقع "من المرجح أن يستمر في التراجع" في مواجهة عقبات سياسية متنامية، وتحقيقات في معاملاته الضريبية والتجارية، فضلا عن نتائج تحقيق مولر، والمعارضة السياسية النشطة. وربما نرى هذا بالفعل الآن في سلوكه العدواني منذ انتخابه.
إن الأشهر المقبلة قد تكون خطيرة بشكل خاص على أمريكا والعالَم. فمع تزايد ضعف موقف ترامب السياسي وتنامي العقبات التي تواجهه، يشكّل عدم استقراره العقلي خطرا متزايد الجسامة. فقد ينفجر في نوبة من الغضب، فيقيل مولر، أو ربما يحاول حتى شنّ حرب أو إعلان حالة الطوارئ من أجل استعادة سلطته. من الواضح أننا لم نر ترامب في كامل غضبه إلى الآن، لكن هذا قد يحدث قريبا، مع تضاؤل حيّز المناورة المتاح له بشكل متزايد. وإذا حدث هذا سيتوقف الكثير على أداء النظام الدستوري في أمريكا.

أستاذ التنمية المستدامة وسياسات الصحة والإدارة في جامعة كولومبيا