من حكايات الأجداد

مقالات رأي و تحليلات الأحد ١٦/ديسمبر/٢٠١٨ ٠٤:٢١ ص
من حكايات الأجداد

أحمد المرشد
تتحفنا مواقع السوشيال ميديا يومياً بعشرات الحكم والحكايات منها الجديد والقديم، والثمين والغث، وربما لا نلقي لها بالا من كثرتها وتكرارها، ولكن في بعض الأحيان تشدنا بعض الحكم والبوستات التي نستقبلها، وسأسرد على سبيل المثال نص فيديو وصلني أخيراً بطله إنسان فقير يدعي محمد يحمل طفله الصغير ويجلس على كورنيش نيل القاهرة هو وزوجته، ثم تقف أمامهم سيارة يقودها شخص آخر وزوجته، وهنا يبدأ الحوار حيث يبدأه الفقير موجها حديثه لزوجته وكان يتكلم عن صاحب السيارة وزوجته ونشتم من حديثه الحقد والحسد وعدم رضاء بحاله الذي كتبه له المولي عز وجل، فيقول لها قاصداً صاحب السيارة: انظري كيف يعيش الناس، عايشين حياتهم عادي بلا نكد أو أي منغصات، لا ألم ومشكلات، يا ليتني كنت سعيداً مثلهما وأملك سيارة كما يملك هذا الشاب وعايش حياتي مرتاح مثله..فترد الزوجة بغضب من كلامه متسائلة: ماذا تقصد بأن تعيش مرتاحاً كما هو مرتاح، وهل أفهم إنك غير سعيد معي يا محمد؟..ليجاوبها بأنه لم يقصد هذا. إلى هنا تنتقل الكاميرا إلى صاحب السيارة وهو يهم بفتح باب سيارته لينزل منها ويتوجه نحو محمد وزوجته الجالسين على الكورنيش، ويبدأ بإلقاء السلام على العائلة ويقول إنه وهو يوقف سيارته بالصدفة أمامهم سمع حديث محمد عن الناس المرتاحة التي تعيش بلا هموم وأحزان، ثم أبلغ الرجل الفقير بأنه يود إجراء صفقة ممتازة جداً معه. ولكن محمد يرد بأنه لا يفهم شيئاً مما قاله الرجل صاحب السيارة وطلب منه أن يفسر ما سبق وقاله قبل قليل. فقال له: أكيد أنت تعتقد الآن أنني إنسان سعيد في حياتي مع زوجتي حيث يبدو لك، هذا بخلاف أنني أملك سيارة، وبالفعل أنني سعيد في حياتي، وأنت قلت إنك تتمنى تكون مكاني وأنا موافق ولكن بشروط. وهنا يقاطع محمد الإنسان الفقير صاحب السيارة ويعيد عليه نفس تساؤله السابق: لا أفهم شيئا ماذا تريد قوله بالضبط؟.. وهنا يحاول صاحب السيارة توضيح موقفه أكثر ويقول إنه إنسان مريض بالكلى ويقايض محمد بأخذ كليته مقابل سيارته، بل ويزيد أنه على استعداد لدفع أموال أخرى فوق سيارته مقابل تبرع الإنسان الفقير له بكليته. ويستكمل صاحب السيارة كلامه ليزيد في قيمة الصفقة ليغري بها محمد كي يقبلها، ويقول له إنني متزوج كما ترى ويشير إلى زوجته– تجلس في السيارة – وهي إنسانة عظيمة وأحبها ولكن لم يشأ المولى الرزاق الوهاب أن يرزقنا بأولاد وقد أبلغنا جميع الأطباء استحالة أن يكون لنا أطفال فهل نستكمل الصفقة وتعطيني ابنك مقابل تنازلي لك عن كل ثروتي. وأنهى صاحب السيارة حديثه لمحمد قائلا: هذه هي حياتي التي تراها من الخارج قبل أن تعلم ظروفي وتتمنى أن تكون هي نفس حياتك، وأنا الآن بعد أن كشفت لك ظروفي وحالي موافق جداً أن أكون مكانك وسأكون راضيا وسعيدا كما أنا راضي وسعيد بحالي المقسوم لي الآن، فهل توافق أنت أن نتبادل الأماكن، فأكون أنت بما لديك وتكون أنا بما لدي؟.
تستمر أحداث مقطع الفيديو ليصاب محمد الإنسان الفقير بدهشة من صفقات صاحب السيارة الغني ولا يجد ردا سوا قوله: لا أدري بماذا أرد عليك؟. ويباغته الآخر بقوله: ولن تعرف بماذا ترد، ثم يهم عائدا الى زوجته التي تنتظره بالسيارة وقد سمعت حديثه بكامله مع الإنسان الفقير الذي نراه في المشهد يحضن ابنه بقوة في إشارة الى رفضه ضمنيا للصفقة، لينتهي المقطع المؤثر بموسيقاه الحزينة بجملة مصرية عامية تقول: "متبصش لغيرك وتقول اشمعنا..بص لنفسك هتلاقي إنك في نعمة"، أي لا تنظر للذي يملكه غيرك وانظر بداخلك ستجد إنك تعيش في نعمة لا مثيل لها.
فالحمد لله على ما قسمه لنا من أرزاق ونعم وعطايا، فالله ذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون.
وثمة قصة أو أسطورة سردها جدي عليّ وأنا في الثانية عشرة من عمري ضمن قصص وحكم كثيرة لا تزال عالقة بذهني حتى الآن وقد نقلتها لأولادي وأحفادي، فهذه هي سنة الحياة، نتعلم من أجدادنا وآبائنا لنعلمه إلى أولادنا وأحفادنا، والقصة بطلها إمبراطور ورث العرش عن أبيه فطمع في كل شيء حوله، ولم يكفه ما لديه من ثروة ومال وجاه فطمع في منزل مؤذن المسجد المجاور للقصر. ولكن حاشية القصر أبلغوه بأن هذا المنزل مملوك لمؤذن المسجد وهو منزل قديم جداً يعود لأيام جدودك ولم يطلبه أي منهم. ولكن الإمبراطور تشدد في طلب المنزل فذهبوا إلى صاحبه وقبل أن يوافق على المقايضة قال لهم أبلغوا الإمبراطور بأن يحل لغزا قبل أن أتنازل عن منزلي له. فاستشاط الإمبراطور غضبا، فكيف لمواطن من رعيته أن يشترط عليه ويعترض على ما يريده وهو الحاكم الآمر الناهي. ولكن الإمبراطور فكر مليا في الأمر وحدثته نفسه بأنه يستطيع حل أي لغز ولما لا؟..فهو الإمبراطور. فجاؤوا بمؤذن المسجد صاحب المنزل الى القصر فطلب منهم إحضار ميزان ثم آتوا به فعلا، ليفاجأ كل من يحضر المشهد بأن المؤذن أخرج من جيبه جمجمة وطلب من الإمبراطور أن يضع ما يشاء من ذهب وفضة في الكفة الأخرى. فوضع الأمبراطور فضة وذهبا كثيرا ولكن في النهاية رجحت كفة الجمجمة، ثم وضع الإمبراطور المزيد من الذهب والفضة ولكن ظلت كفة الجمجمة هي الأرجح لتهبط وترتفع الكفة الأخري المملوءة بالذهب والفضة. وعندما اكتشف المؤذن أن الاستياء والغضب قد تغلبا علي وجه الإمبراطور أبلغه بأنه سيعود بعد أسبوع من الآن لعله يجد حلا لهذا اللغز.
وقد استغل الامبراطور هذه الأيام في استشارة الكهنة ورجال القصر من أجل حل اللغز، وعندما أيقن أنه وجميع من حوله فشلوا في التوصل للحل استدعي المؤذن وطلب منه حل اللغز الصعب، فطلب نفس الميزان فآتوا به فورا فوضع نفس الجمجمة فوق أحدي الكفتين ثم أخرج من جيبه حفنة من التراب ووضعها في الكفة الأخري، لترجح حفنة التراب مقابل الجمجمة، فتمتم الحاضرون وهللوا: ما هذا وماذا تقصد؟ فقال المؤذن الفقير الذي يريد الإمبراطور بكل ثروته وجاهه أن يستولي على منزله ومنزل أجداده: لأن الجمجمة بها عين وعين الإنسان لا يملؤها سوى التراب.
إنها حكمة أخرى بأن المقسوم هو ما قسمه الله لنا وأن الجشع لا يؤدي سوى الى التهلكة وكما يقول المثل الشعبي "الطمع قل ما جمع". فالحمد لله على ما قسمه ربنا لنا ولنرضى به وندعوه ألا يزول بل يزيده نعمة.
ومن الأقوال المأثورة أن رجلا فقيرا زار صاحبه الغني في أحد قصوره وقال وهو يتأمله: أين نحن حين قسمت هذه الأموال والممتلكات؟. فأخذه الغني للمستشفى وقال له: وأين نحن حين قسمت هذه الأمراض؟..فلنحمد الله على كل حال وفي كل وقت. ونتعلم من هذا الرضى بقضاء الله وقدره والقناعة بأن الله سبحانه وتعالى خلق أقدار العباد قبل خلقهم، والأهم أن ينبع هذا الإيمان من القلب حتى تصبح النفوس مطمئنة راضية مرضية بما قسم الله تعالى لها وتستريح من الأوجاع والتفكير المرهق للأبدان والعقول والقلوب.
في الأسبوع المقبل لي موعد معكم وقصة مثل تناولتها مع أخي د.حيدر الجبوري من العراق الشقيق وهو مدير إدارة فلسطين في جامعة الدول العربية هذا الأخ العالي الثقافة وبحر العلوم الذي استمتع بالغوص في أعماقه كلما جمعني به اللقاء.

كاتب ومحلل سياسي بحريني