الثورة التي تحتاجها أوروبا

مقالات رأي و تحليلات الأربعاء ١٩/ديسمبر/٢٠١٨ ٠٤:١٧ ص
الثورة التي تحتاجها أوروبا

جاي فيرهوفشتان

تَأتي الاحتجاجات العفوية التي عرفتها شوارع باريس الشهر الفائت، بعد مرور 50 عاما تقريبا على الثورة الجماعية التي حدثت في ماي 1968. ولكن هذا لا يعني أن الحدثين يمكن مقارنتهما. فأحداث مايو 1968 كانت ثورة فوضوية شنها الطلبة والعمال ضد تقليدية وسلطوية الرئيس شاغل دو غول الواضحة. وبالمقابل، يتحاشى أصحاب السترات الصفراء» اليوم، النقاشات السياسية والفكرية، كما أن احتجاجاتهم تتحول بوتيرة سريعة إلى «غوغاء» تثير أعمال الشغب.

وما كان يبدو في البداية احتجاجات لائقة للطبقة المتوسطة ضد فرض ضرائب جديدة على الوقود، أصبح فرصة لعصابات محترفة ومتطرفين يشتكون من المهاجرين، ومن الاتحاد الأوروبي والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. وقال ستيف بانون، المستشار الشعبوي السابق للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في ظهور أخير له إلى جانب مارين لوبين ممثلة حزب الجبهة الوطنية اليميني، مبتهجا، «باريس تحترق». وحسب بانون، «أصحاب السترات الصفراء.......ينتمون إلى نفس صنف الأشخاص الذين صوتوا لدونالد ترامب.......والذين صوتوا للبريكست»

والأسوأ من هذا، هو أن المظاهرات المتطرفة انتقلت إلى بلجيكا وهولندا المجاورتين، اللتان أطلقتا مظاهرات السترات الصفراء الخاصة بهما. وفي إيطاليا، استغل، ماتيو سالفيني، وزير الداخلية الكاره للأجانب، الاحتجاجات ليهاجم سياسات ماكرون، دون الاكتراث بكون إيطاليا في حاجة ماسة لبرنامج ماكرون الإصلاحي أكثر من فرنسا.
وينبغي أن يثير استغلال دعاة اليمين البديل لاحتجاجات السترات الصفراء كمنصة لإفراغ الحقد والكذب، قلق كل الأوروبيين. وبطريقة أو أخرى، يتلقى العديد من الأحزاب والحركات الشعبوية، اليوم، الدعم المالي من الكرملين. وهناك أدلة كثيرة تشير إلى أن الاستفتاء بشأن البريكسيت الذي أنجزته المملكة المتحدة العام 2016 تأثر ب»المال الأسود» القادم من روسيا. وتُواصل الاستخبارات الروسية التحريض على كراهية المسلمين في جميع أنحاء أوروبا.
ونجح دعاة اليمين البديل في استغلال خوف الناس لإضعاف الحلول العالمية للتصدي للتحديات العالمية مثل الهجرة وتغير المناخ. وبالنسبة لهؤلاء الذين يسعون جاهدين لتحقيق أهدافهم، فقد كان لخطاب التيار اليميني بشأن اللاجئين والمهاجرين الذين يستولون على مناصب الشغل ويدمرون الثقافة الأوروبية، صدا قويا. وبالنسبة للأسر القروية التي تواجه ارتفاعا طفيفا في الضرائب المفروضة على الوقود، فمن الطبيعي أن تعتقد أن تغير المناخ ليس إلا خدعة روجت لها النخبة السياسية «وسائل الإعلام». إن الوقت قد تأخر على التصدي لهذه المعلومات التضليلية. وأول خطوة نحو احتواء موجة الشعبوية والشكوكية الأوروبية هو قول الحقيقة والاعتراف بالكذب. لكن لا ينبغي أن نكون سُذَجا. فالتصدي لتهديد اليمين البديل لمجتمعاتنا يتطلب إصلاحا عميقا أيضا.
والانتقاد الشعبوي الشائع للاتحاد الأوروبي يكمن في كونه يعمل بغموض وفي غالب الأحيان بدون شمولية. لكن، ربما، يميل الاتحاد الأوروبي إلى الضعف في وجه التحديات العالمية. وخلافا لما يقوله الشعبويون عن كون الاتحاد الأوروبي يتعدى حدود إمكانياته، فإن المؤسسات الأوروبية غالبا ما تقوم بـ»الشيء القليل جدا، بعد فوات الأوان». وينبغي أن يتغير هذا، وبشكل جذري. علينا جعل الاتحاد الأوروبي أكثر ديمقراطية، وشفافية وفعالية- بمعنى آخر- أكثر سيادة مما هو عليه اليوم.
وهذا لا يتطلب منا أن نخترع العجلة من جديد. إننا نحتاج فقط إلى الرجوع إلى أفكار مؤسسي أوروبا: جون مونيت، وبول هينري سباك، وروبيرت شومان، وآل سيد دي غاسبيري وغيرهم. فهؤلاء القادة كانت لديهم رؤيا واضحة لاتحاد أكثر بساطة لكن أكثر قوة، لا تتزعمه لجنة مكونة من 28 شخصا، بل حكومة تتألف من 12 وزيرا. وكانوا سيسمحون للأوروبيين بالتصويت مباشرة لصالح برلمان لديه كل الكفاءات اللازمة ويتمتع بسلطة تشريعية وبدون نظام الإجماع الذي سمح للدول الأعضاء الشريرة مثل هنغاريا بتكبيل أيادي جميع دول الاتحاد.
والأهم من كل هذا، هو أنه لا ينبغي أن نوازن بين الديمقراطية الليبرالية والوضع الراهن، الذي يضمن إلى حد ما سياسة بطيئة ومرهِقة لصنع القرارات. وإذا كان ولابد على الاتحاد الأوروبي أن يصنع قرارات جماعية من طرف الأغلبية، فإن المشاكل التي تواجهها لن تعود صعبة أبدا. وستصبح أوروبا أخيرا قادرة على الاعتماد على نفسها ومعالجة مشاكل مواطنيها.
فعلى سبيل المثال، نظرا لكون الجيش الأوروبي يقوم بوظيفة ركيزة مستقلة داخل حلف الناتو، لن يكون الاتحاد الأوروبي بعد اليوم مجبرا على الإذعان للولايات المتحدة الأمريكية بشأن القرارات المتعلقة بالأمن. ومن خلال سوق أوروبية وحيدة، ستظهر أخيرا بدائل غوغل، وفيسبوك، وأمازون، وسامسونج وهواوي. ومن خلال وضع خفر وحراس على السواحل، سيتقلص اعتماد الأوروبيين على تركيا وروسيا ودول أخرى فيما يخص السيطرة على تدفق المهاجرين.
وبالطبع، مراقبة حدودنا لا يعني انغلاقنا عن العالم الخارجي. فأوروبا ستكون دائما في حاجة إلى العمل مع قوى أخرى. لكن ينبغي عليها أن تفعل ذلك من مركز قوة.
وإذا تمكنت أوروبا من اكتشاف مؤهلاتها من جديد، لن يكون لبديل اليمين أرضية يشن فيها هجوما ضد التعاون الدولي وتعدد الجوانب. وفي أوروبا الأكثر ديمقراطية، لن يتظاهر المواطنون في الشارع ليجعلوا من المهاجرين والصحافيين أكباش فداء، بل للمطالبة بحلول لمواجهة التحديات الحقيقية التي نواجهها.

وقبل أن تكون خيارا مشتركا، كانت احتجاجات السترات الصفراء مبنية على قلق حقيقي بشأن الأمن الاقتصادي. والدرس الذي ينبغي على أعضاء الاتحاد الأوروبي الاستفادة منه هو أنه علينا تعزيز أنظمة الأمن الاجتماعي القومي الخاصة بنا، بموازاة مع إصلاحات على مستوى الاتحاد الأوروبي. ومع وجود اتحاد بنكي كامل، ستكون مدخرات المواطنين في أمان، ولن ينتهي المطاف بدافعي الضرائب في شباك إسراف القطاع الخاص. ومع وجود اتحاد نقدي كامل وميزانية مشتركة مستقلة بذاتها، ستصبح منطقة اليورو أكثر مرونة في حال حدوث أزمة مالية أخرى. وحتى تصبح أوروبا جدية بشأن الإصلاحات الاقتصادية، سيواصل اقتصادنا التراجع بشكل بنيوي مقارنة مع باقي دول العالم. إذ منذ العام 2010، بلغ متوسط النمو السنوي في منطقة اليورو 1.3% مقابل 2.3 % في الولايات المتحدة الأمريكية. ويمثل هذا الفارق 1.2 بليون يورو ( 1.4 مليار دولار) في الفترة ما بين 2010 و2018، أو خسارة ما يقارب 500 مليون يورو في مداخيل الضرائب. وفي فرنسا لوحدها، يصل هذا المعدل إلى 10 مليون يورو سنويا- الكلفة المتعلقة بميزانية اقتراحات ماكرون للاستجابة لمطالب أصحاب السترات الصفراء. إن الثورة التي يحتاجها الأوروبيون لن تحدث في شوارع باريس أو بروكسيل، بل داخل مؤسسات الاتحاد الأوروبي المشلولة. فلفترة تزيد عن خمسة عقود، قُسِّمت السلطة في أوروبا بين المحافظين والاشتراكيين، الذين فشلوا، جميعا، في معالجة تحديات العصر.

إن الوقت قد حان للتوقف عن الكلام غير المجدي. إن حاضرنا يتطلب الفعل. وفي انتخابات البرلمان الأوروبي مايو 2019، ستتمكن «أوروبا الأجيال» من التخلص من النظام السياسي القديم ونقل الثورة من الشوارع إلى أروقة الديمقراطية الأوروبية.

رئيس الوزراء البلجيكي سابقا، منصب رئيس مجموعة تحالف الليبراليين والديمقراطيين من أجل أوروبا في البرلمان الأوروبي.